الصفحات

الجمعة، 11 سبتمبر 2015

حروب احتكار تمثيل جديدة تنتظر اليمنيين بعد الانعطافة القادمة!

 _ في 94 اندلعت حرب احتكار التمثيل الأولى التي تناسلت منها الحروب جميعا

       _ المغامرة الحوثية انتهت بموافقتهم على القرار الدولي

      _________________________________________


   
         حروب احتكار التمثيل بعد إعلان الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990، بدأت في مايو 1994 بالحرب التي استهدفت إخراج الحزب الاشتراكي والانفراد، باسم "الشرعية"، بحكم "اليمن الكبير".
         أدت تلك الحرب، وما تلاها، إلى ضرب المضمون الديمقراطي للدولة اليمنية الواحدة وتكريس "دولة الامتيازات" السلطانية في الشمال وتعميمها جنوبا أو بتعبير الأديب اليمني الراحل عبدالله البردوني، "توسيع اقطاعية صالح جنوبا"!

         في 2004 نشبت حرب من طبيعة مختلفة في الشمال ضد حماعة الحوثيين.
الثابت أن هذه الحرب، رغم طبيعتها المختلفة، تشكل استمرارية لحرب 1994، ذلك أن الحرب الأولى التي ازاحت الحزب الاشتراكي اليمني من السلطة واخفقت في تعويض الانكشاف السياسي في الجنوب، الناجم عن إزاحة الاشتراكي بالسلاح من السلطة، على مدى عقد كامل، نقلت التناقضات بين صالح وحلفائه إلى ذاخل المعسكر المنتصر، خصوصا مع نزوع صالح إلى تركيز السلطة في قبضته على حساب كل الحلفاء الحزبيين والعسكريين والجهويين والتقليديين (حلفاء حرب 94)، وقد حرك الصراع على السلطة في العاصمة رواسب بقيت من حرب الستينات في الشمال ووفر مشتلا لتنامي حضور جماعة صغيرة يقودها حسين بدر الدين الحوثي في صعدة تناهض "الشيطان الأكبر" في شعاراتها لكنها في حركيتها تصطدم بتوجهات الرئيس صالح في ما يخص "التوريث" وتخرق تفاهمات مع قائد الجماعة (وربما اخرين أيضا) تتصل بأولويات الجماعة واهدافها التي تتمحور حول الحد من "التجمع اليمني للإصلاح" والتنافس مع "السلفية" في سياق منهج الرئيس صالح المضارب بين المكونات الحزبية والايديولوجية والاجتماعية.
 

       من المفيد الإشارة هنا إلى التزامن بين حرب 2004 وبين تنامي تركيز السلطة وأدوات القوة وهيئات الدولة في قبضة الرئيس ولصالح حزبه والدائرة الأضيق من الأقارب.
      

       والاهم أن الحرب جرت بالتزامن مع تسارع وتيرة التوريث عبر تقدم نجل الرئيس صالح في الجيش وتنصيبه قائدا للحرس الجمهوري الذي حظي برعاية "الشيطان الأكبر".
 

      كان ملف التوريث حاضرا في حرب صعدة الأولى بأكثر مما تصوره كثيرون حينها. فالنظام الجمهوري الذي نشأ في الشمال عقب ثورة 26 سبتمبر 1962 انهى حكم الائمة لكنه لم ينجز اهداف الثورة الأخرى بما يحقق القطيعة النهائية مع الماضي.
 

        من دون الانتقاص من أية تضحيات وتجنبا للاستغراق في المسار التاريخي للدولة في الشمال، يمكن القول إن أحد مكتسبات ثورة سبتمبر التي بقيت (بما تمثله من رمزية) هو إنهاء التوريث في الموقع التنفيذي الأول في الدولة. كذلك تعاقب الرؤساء على السلطة منذ سبتمبر 1962 من دون أن يورث أحدهم الرئاسة إلى أحد من ابنائه أو اقاربه.
لأسباب تتعلق بالتاريخ الحديث لليمن، فإن الموقع الأول في الدولة (وربما أيضا مواقع رفيعة أخرى في الجيش والأمن) صار حكرا على فئتين في التراتبية الطبقية (الهرم الاجتماعي التقليدي في يمن ماقبل 1962) هما القضاة وأبناء القبائل العاديين العسكريين، ومحظورا لأسباب سياسية واجتماعية على فئتين هما "السادة" و"كبار المشايخ". لكنه جغرافيا ظل محجوزا لأبناء المرتفعات الشمالية في اليمن التاريخي (الجغرافيا الزيدية) حيث المنجم التاريخي للائمة والقادة العسكريين والمشايخ القبليين الأقوياء.
من يتتبع الخلفيات المهنية والاجتماعية للرؤساء في الشمال يمكنه التقاط الخط العام لتوزيع القوة السياسية والاجتماعية خلال العقود الأربعة اللاحقة على ثورة سبتمبر.
 

        في البدء أطاحت الثورة ببيت حميد الدين من الحكم، وأطلقت وعودها الكبرى بخصوص الجمهورية والعدالة الاجتماعية. لكن الحرب الأهلية ثم الانشقاقات في المعسكر الجمهوري اضعفت إلى حد كبير جيش الثورة، وعززت قوة شيوخ القبائل.
عندما قامت دولة الوحدة في 90 كان الجيش (غير الثوري بقيادته العصبوية) هو من يحكم الشمال، بالتحالف مع كبار المشايخ.
 

       بعد 94 بدأ العسكري (القبيلي العادي) الذي يحكم الشمال ثم اليمن الكبير، يخترق "آخر المحرمات الجمهورية" بإصراره على إضعاف الحلفاء جميعهم لصالج توريث الرئاسة لنجله الأكبر أحمد.
 

         هذا التوجه الخطير شكل استفزازا لا يحتمل في الدائرة الصيقة للرئيس. كذلك بدات التصدعات في معسكر المنتصرين باسم الشرعية في حرب 1994.
 

       خسر صالح أولا بعض أعضاء الشبكة الحاكمة العسكريين، وحامت الشكوك حول ملابسات انفجار طائرة هيلوكبتر في حضرموت على متنها 2 من أبرز القادة العسكريين من "العصبة" العسكرية الحاكمة.
 

        في نهاية التسعينات اعترى الفتور علاقته بالشيخ عبدالله بن حسين الأحمر الذي عبر صراحة عن انزعاجه من سلوك صالح "التوريثي".
 

        في مطلع العقد الأول من القرن الجديد كانت دائرة المستائين تتسع لتشمل مشائخ كبار اخرين وأبرز رجال البيروقراطية اليمنية، فضلا على أقرب المستشارين.
 

          في منتصف العقد الماضي (2004) كان الحوثيون يتقدمون في خطابهم المعارض ضد صالح ليشمل نقد سلوكه العصبوي العائلي الذي يضع مقدرات الدولة اليمنية في أيدي ابنائه وأبناء اشقائه.
                          ***  

       أراد صالح غرس "الملكية" في مشتل "الجمهورية" الباقي من الثورة الوطنية اليمنية في مطلع الستينات، شمالا وجنوبا، فتسممت العلاقات في الدائرة العسكرية_ القبلية التي تستحوذ على السلطة منذ نهاية السبعينات.
   
          مثل "التوريث الجمهوري" استفزازا لمشاعر اليمنيين عموما، لكنه استفر بدرجة اعلى شدة، كل الأقوياء في محيط صالح الذين يضعفون تدريجيا.

        بكلمة أخرى، فإنه إذا كان مسموحا ل"العسكري القبيلي" أن يحكم وأن يراكم قوته وثروته ونفوذه ويمد في سنوات حكمه ب"الانتخابات التجديدية" قبلوية الأحكام، فإنه من غير الجائز أن يستثمر مركزه في الدولة ليتحول من "حاكم فرد" إلى "سلالة حاكمة".
 

       وفي ما يخض الحوثيين، بشعاراتهم الاسلامية وبمظلومية (مفترضة) منذ الأطاحة بالحكم الإمامي، فإن توريث الحكم في بيت غير هاشمي، لا يمثل استفزازا "جمهوريا، فحسب، وإنما محفزا لمشروع فكري وسياسي لا يظهر انه مرتبط روحيا بثورة سبتمبر قدر ما يظهر في تعبيراته مناوئا لها.
 

      وإذا كان من يحكم بشرعية سبتمبر يعمل على تحويل الجمهورية إلى ملك عضوض، فماذا بقي من اخلاقية للثورة التي أنهت حق "السادة" من "البطنين" في حكم اليمن؟
 

      كذلك صار التوريث "كعب أخيل" صالح الذي عبرهـ ومن خلال "الضرب" المتواصل عليه من كل الحلفاء الساخطين، سقط حكم "الرئيس الجمهوملكي" في 2011. فقد قامت ثورة شعبية (في فصل "الربيع العربي" المبكر نوعا ما، ترفض، في ما ترفض، التوريث، انضم إلى شبابها حلفاؤه جميعا منذ 1978 ثم بعد 1994، مشايخ وعسكريين وأحزابا و"إخوان" وحوثيين وجنوبيين (ما تبقى من جماعة الرئيس الأسبق علي ناصر محمد في تحالف السلطة وابرزهم هادي).
                       ***
 

        في 1994 اندلعت حرب أولى بعد الوحدة انهت مبدأ الشراكة في الدولة الجديدة وقوضت مكتسبات "الوحدة" وبخاصة الديمقراطية التي ضاق هامشها حد الاختناق لولا الإبقاء على مساحة محدودة جدا ل"حربة الصحافة" ظلت تذكرة بالوعود الكبرى ل"الوحدة اليمنية".
 

        كانت تلك حرب احتكار التمثيل الأولى، في دولة الوحدة اليمنية، التي تناسلت منها حروب صعدة ال6، ثم حروب الحوثيين الاستردادية، وهذه الحرب اليمنية الاقليمية باسم "الشرعية".
                   ***
 

         اطاحت الثورة الشعبية في 2011 بحكم الرئيس صالح. ودشنت حروب تمثيل جديدة داخل "الجغرافيا الزيدية" وجغرافيا اليمن السياسي الذي صارت حدوده هي، بالتقريب، حدود اليمن التاريخي (منقوصا منه المخلاف السليماني).

          لأسباب سبق لي عرضها في مقالات (ومنشورات) خلال العامين الماضيين، وفر أداء السلطة الانتقالية أسباب اندلاع "حروب احتكار تمثيل" جديدة في اليمن.
في مطلع 2014 قرر الرئيس هادي وحلفاؤه، الإصلاحيون أساسا، تفكيك الدولة اليمنية إلى 6 أقاليم أحدها اقليم "آزال" الذي تتركز فيه "القوة" رغم التصدع في جبهة حكم صالح. كان الأقليم يمثابة الأرضية الصلبة ليتنزل عليها مشروع الحوثيين السياسي الذي ظهرت معالمة في "الوثيقة الفكرية" للزيدية التي وقع عليها زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي في مطلع 2012 (دلالة التاريخ مهمة هنا).
 

          في العام الماضي بدأ الحوثيون، مع حلول الصيف، حروبهم الاستردادية في عمران ثم في الخريف اجتاحوا العاصمة ومنها توسعوا إلى اغلب محافظات الشمال والوسط.
 

           في يناير احتل الحوثيون المربعات الأمنية للرئيس هادي في العاصمة وفرضوا عليه الإقامة الجبرية. فكانت الحرب الأشد دموية في تاريخ اليمن.
                     ***
 

           من المرجح ان تنتهي هذه الحرب بتسوية تلزم الحوثيين وصالح (أو ما يمكن وصفه بالتحالف الاضطراري بين الزيدية العقائدية _ طبق النسخة الحوثية_ وبين الجزء الخاسر من الزيدية الجغرافية في 2011) بتنفيذ بنود القرار الدولي 2216.
لكن على اليمنيين، من أجل مستقبل مغاير، إعادة صوغ الأسئلة المتعلقة بالحرب وبالمسار السياسي:
_ هل كانت هذه الحرب حتمية أم أن مسارا سياسيا وفر عوامل اندلاعها، أو على الأقل شجع تحالف (الحوثي_ صالح) على شنها؟

_ مع مراعاة التفاوت في القوة والتمايز في أسباب نشوء الجماعات المسلحة في اليمن خلال العقدين الأخيرين (منذ حرب 1994) هل تساعد مشاريع الفدرلة (بما هي مشاريع عصبوية تبشيرية) على تهميش جماعات احتكار التمثيل (باسم الله أو باسم شريعته أو باسم مظلوميات فئوية وجهوية) أم توفر مشاتل لازدهارها؟
_ هل خبرة اليمنيين ورعاة العملية السياسية (العرب والدوليين) مع "السلطة الانتقالية" تعزز ثقتهم فيها أم تسخِف أية رهانات معقودة عليها حتى في حال التزم الحوثيون كليا بالقرار الدولي؟
_ ماذا عن خبرة المكونات الحزبية والاجتماعية اليمنية الموالية "للشرعية التوافقية" والرعاة الاقليميين والدوليين للعملية السياسية الانتقالية في اليمن مع أداء هذه "الشرعية" في أشهر الحرب، أهو أداء يعيد النظر في التقييم السلبي السابق لهذه السلطة أم انه يكرسه؟
                          ***
 

           الحرب في اليمن مستعرة منذ مارس الماضي. وقد سبقتها حروب استردادية الطابع، منذ صيف 2013 (حرب اقتلاع السلفيين من دماج). وهي مرشحة لخاتمة في الأمد القصير.

          هذا ما يأمله أغلب اليمنيين بمعزل عن دوافع وغابات المحتربين جميعا.
مبدئيا، يمكن القول بتحفظ إن أحد مشاريع احتكار التمثيل في اليمن، مشروع الحوثيين أقصد، يذوي، راهنا، بعدما كبّد اليمنيين كلفة مادية وبشرية و"وطنية" فادحة، فهذه الحرب تحد من خطورة هذا المشروع نسبيا.
         لكن ماذا عن مشاريع احتكار التمثيل الأخرى، الايديولوجية والجغرافية؟
                        ***
 

              الظاهر هو انها تزدهر منذ سنوات، وبخاصة منذ شهر مارس، جراء افتقار اليمن إلى مشروع وطني جامع يأخذ اليمنيين إلى رحابة المستقبل.
 

            الأكيد أن مشاريع ماضوية متعددة تتجاذب اليمنيين في ظل انعدام هذا المشروع الوطني وافتقار اليمنيين إلى قيادة سياسية مقتدرة تتوافر على الحد الأدنى من "وقر المسؤولية"!
 

           المرجح ان هذه الحرب الأهلية اليمنية_ الاقليمية، تمنح أفضلية لكل مشاريع الاحتكار الجهوية والايديولوجية المناوئة للحوثيين، ما يفرض حساسية فائقة حيال حركية هذه الجماعات في واقع يمني يوفر بيئة مثلى لازدهار جماعات مسلحة تستثمر في الاحباط والفوضى لتعزيز نفوذها في مساحات من جغرافيا الدولة والمجتمع، أخلتها السلطة الشرعية والأحزاب والتحالف.
                       ***
 

               خاتمة الحرب الراهنة مرجحة عما قريب.
            لكن الأكيد أن اليمن مقبل على حروب اهلية أشد دموية بين مشاريع احتكار التمثيل (وجماعاتها المسلحة) في السنوات المقبلة في حال نجح مخطط تفكيك الدولة اليمنية الذي يبشر به هادي ومستشاروه، وترعاه الرياض وواشنطن ولندن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق