الأحد، 8 نوفمبر 2015

من واجب اليمنيين تأمين "وداع" في صنعاء يليق بمكانة الإرياني

 لتكن وفاة الإرياني مناسبة لاختبار ما تبقى من "انسانية" أطراف الحرب التي تدمر اليمن!
         ترجل بعيدا عن أمتاره الخمسه في "يمن" كان من أبرز مهندسيه وألمع سياسييه!
  _________________________________________
       
      
           رحم الله الدكتور عبدالكريم الإرياني. أحد أهم السياسيين اليمنيين منذ نصف قرن. لعب أدوارا بارزة في السياسة والإدارة منذ مطلع السبعينات.
         

       أسهم بعد الوحدة، وبخاصة بعد حرب 1994 في تصميم النظام السياسي القائم على "الحزب الغالب" أو "الحزب المسيطر". برعايته جرت عملية تحويل "التنظيم السياسي" لنظام الرئيس صالح في اليمن الشمالي (حيث المؤتمر الشعبي هو البديل السياسي للتعددية الحزبية والمعادل السياسي للحزب الاشتراكي في اليمن الجنوبي) إلى "حزب مسيطر" من خلال "اغلبية كاسحة" في انتخابات 1997 ثم "أغلبية ساحقة" في 2003 ف"اغلبية مميتة" في انتخابات 2006 المحلية.
        
      تابع حضوره السياسي الطاغي في 2011 عندما قامت ثورة شعبية ضد الرئيس صالح، إذ لاح وكأنه يتفهم دواعيها ومطالب شبابها. وقد اقترب لاحقا من الرئيس الجديد هادي محاولا إدارة انتقالة أخرى في "الحزب المسيطر" تتيح "خروج مشرف" آخر لصالح من رئاسة التنظيم الذي أسسه في مطلع الثمانينات وصار "حزبا" حاكما في مطلع التسعينات، فحزب "الحاكم" حتى 2011، فحزب نصف حاكم بعد 2011، ثم انتهى به المطاف إلى حزب متنازع عليه بين الحاكم السابق في صنعاء والحاكم الراهن المقيم في الرياض.
               ***
           هو أحد العناصر الأساسية للدارسين والباحثين والصحفيين اليمنيين والعرب والأجانب لفهم اليمن؛ عنصر عالي القيمة لكل راغب في قراءة متعمقة للحالة اليمنية المعقدة. فهو فاعل في السياسة والإدارة والحرب والحوار لا غنى لأي دارس أو باحث عن تتبع سلوكه السياسي ومواقفه وأدواره منذ نصف قرن. وهو أيضا قطب جاذب لكل أولئك الذين يقتربون من اليمن أو يدرسونه أو يؤثرون في قراره، يسمعون منه ويستمزجون رأيه ويستهدون بتقديراته وأحكامه. من هذه الزاوية يمكن فهم بقائه في موقع التأثير والنفوذ السياسي منذ مطلع السبعينات على رغم تعاقب الرؤساء والانقلابات والحروب، وعلى الرغم من التحولات الكبرى في اليمن التي دفعت بعديدين من مجايليه إلى الظل، وأحيانا إلى "دار البقاء"!
                  ***
         الإرياني ليس مجرد سياسي يمني داهية. فهو الوريث النجيب لأسرة يمنية عريقة (من فئة القضاة) كانت حاضرة في المجال السياسي والثقافي اليمني منذ قرون. وهو أحد اقارب الرئيس اليمني الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني (1967_ 1974) أحد أبرز رجال السياسة والثقافة في اليمن في القرن العشرين. وهو شقيق الشاعر والأديب اليمني الكبير مطهر الإرياني أحد أهم من شكلوا وجدان اليمنيين منذ مطلع الستينات بأشعاره وبحوثه وقصائده الغنائية الوطنية التي صارت علامات في سجل "الإبداع اليمني" وملحمة "الوطنية اليمنية".
             ***
        الإرياني هو السياسي اليمني الأكثر إثارة للجدل في العقود الأخيرة. فهو، ولا جدال، ذو توجهات وطنية صريحة. وفي بعض اللحظات تبدى وطنيا متعصبا، بل قحطانيا متحيزا كما هو الحال بالنسبة لعديدين من أسرته وكثيرين من فئة "القضاة" في اليمن.

إلى خلفيته الأسرية التقليدية، لاح قوميا عربيا في غالب الأحيان. ومن المعلوم أنه التحق بحركة القوميين العرب في النصف الثاني من عقد الخمسينات عندما كان ل"القومية العربية" بطلها في القاهرة، وجماهيرها العريضة في العالم العربي، وأحزابها وحركاتها السرية الفتية في المشرق العربي والخليج والجزيرة.
لكن الإرياني الذي تحصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي (نهاية الستينات) من الولايات المتحدة الاميركية صار، لاحقا، قوميا معتدلا عند القوميين [بل قوميا متأمركا عند المتطرفين و"السلفيين" منهم] قدر ما بدا وطنيا يمنيا متعصبا في "عدسة" السعودية التي صارت الفاعل الأول في اليمن الشمالي في مطلع السبعينات. وهو أيضا لاح "ليبراليا" مستفزا في عيون رفاقه "الحركيين" وأصدقائه اليساريين.
              ***
        كل هذه الأبعاد والتحولات وزوايا النظر المتعددة والمتباينة جعلت من الإرياني رجلا "اشكاليا" بامتياز. هو موضع النقمة قدر ما هو محل الرجاء. هو رجل من الماضي لكنه من موقعه في "القمة" يصوغ المستقبل. وبعد 2011 لم يغادر الارياني السياسة كما توقع كثيرون وكما أمل هو. إذ أن الأزمة في الرئاسة الجديدة التي لا تترأس "حزب الرئيس" السابق، أبقت عليه مطلوبا في عالم السياسة. بل إنه صار "قناة الوصل" بين الرئيس الجديد وسلفه، وبين الرئيس و"حزب الرئيس" قبل أن ينحاز كليا إلى الرئيس هادي، ويحضر "مؤتمر الرياض" بعد انقلاب الحوثيين على "الشرعية التوافقية" وانتقال الرئيس الجديد إلى السعودية بالموازاة مع انتقال الرئيس السابق إلى "صعدة" بالسياسة وبالحرب.
                        ***

       لم يتفرغ الإرياني، وهو مثقف عميق وصاحب دراية واسعة باليمن وبالتاريخ والتراث، للكتابة من أسف. وكل من جالس هذا اليمني الاستثنائي يعرف أي مثقف كانه بمعزل عن حكمه في أي سياسي هو.
        الإرياني كما أي سياسي أمضى أغلب عمره قريبا من السلطة أو فاعلا رئيسيا فيها، يميل إلى التلميح في نقاشاته لكنه لا يمانع من التصريح إذا اطمئن إلى جلسائه. وهو كمثقف معتد بنفسه، يدرك قيمته وأهميته، ينحو إلى التقشف في الكلام في اللقاءات المفتوحة تاركا ل"أهل الخفة" المنصات والمكروفونات.
          

       كان الأقصر قامة بين أولئك الذين تصدروا المشهد السياسي في اليمن في العقود الأخيرة، لكنه كان أعلاهم قيمة وأشدهم أهمية وألمعهم حضورا. كان الأقصر إذ بالكاد يتعدى المتر والنصف متر، لكنه أطولهم عمرا في السياسة كما في الحياة، وأطولهم جذورا في السياسة كما في "الحكم".
      ويحضرني للتو وصف للأستاذ طلال سلمان محرر جريدة "السفير" البيروتية يكثف "شخصية" الإرياني، إذ قال _ وأنا هنا لا انقل تعبيره حرفيا_ إن من يلتقيه يخال أن هذا الرجل يبلغ من الطول "مترا ونصف المتر فوق الأرض، وخمسة أمتار تحتها"!
     والآن؟
     والآن، في هذا المساء الصنعائي الحزين، فإنه ما عاد حاضرا على أرض السياسة في اليمن، فقد توفاه الله قبل ساعات في أرض تبعد آلاف الأميال عن مسقط راسه. وصار من واجب اليمنيين أن يودعوا هذا الرجل بما يليق، وأن يجدوا سبيلا لنقل جثمانه إلى اليمن التي وهبها عمره. صار من الواجب أن يترفع اليمنيون على جراحهم واحقادهم ورغباتهم وعصبوياتهم، وأن يجعلوا من غياب أبرز سياسييهم فرصة لاختبار صلاحية ما بقي من "انسانيتهم" بعد 8 شهور من القتل والتخريب والتدمير والتجريف، وأن تتضافر جهودهم كيما يتاح للدكتور الإرياني، "القصير" والعميق، اللماح المتقشف، المناور المتجذر، الالتحاق بامتاره الخمسة الأخرى في بقعة ما، تحت هذه الأرض التي أحبها ووهبها من فكره ودهائه وعلمه، الكثير.

ليست هناك تعليقات: