السبت، 7 مارس 2015

عن بديهيات الحوار و"الفدرالية المستحيلة" و"الدكاترة فرانكشتاين" الذين اعتزلوا السياسة بينما اليمن يغرق في العنف والفوضى!

       سقوط الدولة والمؤسسات في العاصمة صنعاء، ثم سقوط عواصم محافظات يمنية في قبضة اللجان الشعبية والأنصار من كل الأصناف، بدأ رسميا في يناير 2014 عندما فوض "شعب موفنبيك"* الرئيس الانتقالي عبدربه منصور هادي بتشكيل لجنة لتقسيم اليمن إلى اقليمين أو 6 أقاليم أو أي عدد بين ال2 وال6.
    
      كانوا يفوضون رئيسا انتقاليا بمهمة من اخطر المهام في تاريخ اليمن: تفكيك دولة بسيطة وتحويلها الى دولة مركبة (أي بتنفيذ مهمة خارج المنطق والسياسة والطبيعة). صار الرئيس الانتقالي هو رجل المستحيل. وهو سارع الى تشكيل لجنة وزارها في اليوم التالي وابلغ اعضاءها بسرعة الانتهاء من تقسيم اليمن إلى 6 اقاليم. (كان قد اتفق مع الاصلاح والناصري وقيادات في المؤتمر الشعبي على تقسيم سداسي يمنع انفصال الجنوب ويعزل "المركز المقدس" في معزل عنصري اختاروا له اسم شديد العذوبة هو "آزال"، وآزال هو الاسم القديم لمدينة صنعاء التاريخية).

       كان الرئيس هادي "رجل المستحيل" وقادة الاحزاب القومية واليسارية والاسلامية هم الصحابة الاولين، وشعب موفنبيك هم "التابعون"! وشباب ثورة فبراير وجماعات المجتمعين المدني والحقوقي هم المؤلفة فلوبهم الذين تم استرضاؤهم في موفنبيك، وإغراقهم بمعسول الكلمات والامتيازات المؤقتة في دولة فندق ال5 نجوم ودولة ما بعد الفندق.
       كان "رجل المستحيل" مدعوما من المبعوث الدولي وسفراء غربيين، قد تمكن من إقناع محمد علي أحمد بتشكيل مكون حراكي جديد باسم "مؤتمر شعب الجنوب"، يتيح لنخبة صنعاء وسفراء الدول الراعية القول إن الحراك الجنوبي صار ممثلا في مؤتمر موفنبيك. [في وقت لاحق من عام الحوار الوطني انسحب رئيس مؤتمر شعب الجنوب (أحمد فريد بن صريمة) من هيئة رئاسة المؤتمر، ثم في الصيف القائظ قرر محمد علي أحمد الانسحاب من موفنبيك لكن الرئيس هادي وبنعمر وقادة المشترك كانوا قد تمكنوا من شق هذا المكون ذي التمثيل المحدود في الجنوب، وهكذا استمرت البقية الباقية من "الحراك" الموفنبيكي في جبسات الحوار).
بينما كانت "المهزلة اليمنية" تواصل عروضها في صالات الفندق، كان الحوثيون يشقون طريقهم إلى العاصمة مستفيدين من كل التناقضات بين أطراف المبادرة الخليجية. فهم استفادوا من الصراع بين صالح وهادي (الرئيسين السابق والحالي)، ثم بين المبشرين بفدرالية الاقليمين والمبشرين بفدرالية ال6، ثم بين الرئيس هادي ومستشاره (غير الشقيق!) علي محسن الأحمر. وهم الآن أسياد العاصمة يتلاعبون بالمبشرين جميعا ويعلمونهم درسا في السياسة والقوة!

       منذ عامين والرئيس هادي يتصرف كرئيس خارج الواقع. كرئيس لشعب موفنبيك، ولدولة "اليمن الاتحادي". كان مؤدى هذا السلوك أن تسقط "الجمهورية اليمنية" في مستنقع الحروب الاهلية والطائفية، وأن تنشأ دويلات الأنصار (أنصار الله وأنصار الشريعية وأنصار الثورة وأنصار الشرعية). لكن الدولة المبشر بها (دولة اليمن الفدرالي) ظلت مثل رئيسها، دولة مستحيلة.
الفدرالية (اللامركزية السياسية لا المركزية الإدارية، التقسيم السياسي لا الإداري التنموي) مستحيلة في اليمن. لا يمكن لها ان تتحقق في واقع اليمنيين شديد التعقيد والتداخل و"الانفجار". لا يمكن تصور كيانات مستقرة ومتعاونة تتخلق من هذا "اليمن" المعذب والطافح بالجماعات العصبوية، الطائفية، التي تشتغل على تدمير النسيج الاجتماعي واشاعة الكراهية لتصعد على انقاض اليمن.
***
        الفدراليات تنشأ من اتحاد دول، غالبا. في حالات نادرة تنشأ من احشاء دولة بسيطة تضم قوميات واديان واثنيات متعددة.
تنشأ من وحدويين يريدون وطنا اكبر ودولة مهابة وهوية وطنية جامعة، كما الامريكيين والالمان (والإمارات العربية المتحدة في العالم العربي). لكن في اليمن تغيب الايجابية كليا وتبهت الهوية الوطنية ويتم التبشير بأقاليم موهومة (كما في وسائل الإعلام اليمنية الموالية لهادي والمشترك) ضدا على الهوية الجامعة والآمال المشتركة لليمنيين. ثم انها تستجيب استجابة مرضية لمخاطر التفكك. فبدلا من الذهاب فورا إلى الجنوب لمعالجة المظالم ورد الاعتبار للوحدة اليمنية التي اهينت في حرب 94، قرر "الدكاترة فرانكشتاين" تخليق كيان حي من جسد "المريض اليماني" الذي لما يمت بعد. وها هو "المسخ" اليمني يفتك باليمنيين في كل مكان. (في الرواية الأصلية يتصدى الدكتور فرانكشتاين للمسخ لإنقاذ البلده من شروره، لكن في اليمن يقرر الدكاترة فرانكشتاين _ بداعي المرض او بزعم التقدم في العمر_ الاعتزال، اعتزال صناعة الخزعبلات، تاركين شعبهم يغرق في القوضى)
أعرف ان الذين بشروا بالفدرالية كانوا في اغلبهم يجهلونها، لا يدركون ماهيتها، ولا يمحصون في امكان تحققها، ولا يتحسبون لمضاعفات إعلانها كحل للأزمة الوطنية وبالتالي لمخاطر تطبيقها بالارتجال الغشوم والجهول، على السلم الأهلي. [في مارس 2013 أدرت في فندق البستان جنوب العاصمة حلقة نقاش ضمن فعاليات "برنامج دعم الحوار الوطني في اليمن"، وشارك في الحلقة ممثلو الأحزاب والجماعات السياسية اليمنية. وقد هالني انه لا يوجد حزب واحد لديه رؤية مفصلة عن اليمن الفدرالي الذي يطالبون به. الخفة والجهل كانتا تهيمنان في صالة مكتظة بالمنظرين الحزبيين الذين يبشرون شعبهم بحلول سحرية لا يعرفون تركيبتها ولا سياقها ولا يبالون لتأثيراتها.
       أعرف الآن ان "الفدرالييين" _ بدءا من الرئيس هادي ومستشاريه بمن فيهم "الدكاترة فرانكشتاين" الثلاثة المعتزلون_ لا يقرؤون ما جرى في العام الماضي (عام ما بعد الحوار الذي سيبني اليمن الجديد) بموضوعية ويراجعون خياراتهم المستحيلة بصرامة ونزاهة، ويمحصون في البدائل التي كانت معروضة على الدوام لكنهم تجاهلوها بل وطوحوا بها بعيدا في غمرة انغماسهم في "صناعة الأجماع" التي أخذت اليمن إلى هذه الفوضى المستدامة!
أي منهم لم يعتذر لليمنيين.
لم يصارح الطيبين بانه اخطا إذ لم يحسن تقدير عواقب الأمور.
اعتزل البعض.
وواصل الآخرون الحفر في عدن.
***
     لكن الفدراليين هم متدينون بإخلاص.
    هم الوريث البيولوجي لشموليي الماضي
     هم النسخة الجديدة من "الوحدويين الفوريين" والمبشرين اليساريين والاسلاميين في القرن ال20.
     يكفي في نظرهم أن يرددوا شعار "الفدرالية هي الحل" لتتنزل 6 فراديس (أو فردوسين) على الأرض.
     الفدرالي اليمني هو القومي العربي واليساري والاسلامي في قالب واحد. بروحية مناضل أو مجاهد أو رفيق صارم لا يساوم في المبادئ، يعتنق الشعار الجديد ثم يخرج في الناس مبشرا بالفراديس التي ستتنزل من مجرد اقرار نص في الدستور يقول ان اليمن تتركب (أو تتفكك) إلى ستة أقاليم (أو اقليمين).
        في اليمن فقط تتحول الفدرالية إلى "ايديولوجيا" والدولة إلى لعبة يمكن تفكيكها قطعا ثم يتبارى التبشيريون في الطريقة المثلى لإعادة تشكيلها مجددا.
      بيد أن الفدراليين ليسوا اليمنيين. هناك جماعات فدرالية_ ضد فدرالية في الواقع، تقيم اماراتها من دون انتظار موافقة مجلس الأمن واستفتاء شعبي أو شرعية توافقية. هناك الآن دويلات داخل الدولة وخارجها من حضرموت إلى صعدة. وهناك إمارات قيد الإنشاء تنتظر ساعة الانفجار الكبير لتعلن عن نفسها فيما يمكن اعتباره ولادة جديدة ل"يمنات" ترث اليمن المحتضر الذي نعرفه منذ عقود.
****
         نظرة سريعة على قائمة المبشرين بالفدرالية في اليمن تمكنك من معرفة "الوظيفة النفسية" لها في اليمن. فهي تحرر الأيديولوجي من "التبخيس الذاتي" الذي يكابده جراء هزيمته الكبرى في واقع يمني شديد التعقيد. وتعيده مجددا إلى هذا الواقع مسلحا بما يظنها ايديولوجيا "الفدراليه"، تستحثه ثأراته من كل اعدائه وأصدقائه.

        "الفدرالية هي الحل" هو الشعار التعويضي لشعارات الحالمين جميعا: "حتمية الحل الاشتراكي" و"حتمية الوحدة العربية" و"الإسلام هو الحل".
        توفر الفدرالية خلاصا مركبا لايديولوجيي الماضي: فهي تزودهم بالتعويض النفسي الضروري لمواجهة خساراتهم الايديولوجية الفادحة. وهي أيضا تقتص لهم من كل الذين أذلوهم في الماضي. إنها السلاح (السحري والموهوم) الذي يتحرر به نفسيا واجتماعيا.

       الفدراليون مثلهم مثل "انصار الشريعة" و "أنصار الله".
      لا يقبلون أي تشكيك بمعتقداتهم الدينية.
       يرفضون الدخول في أي نقاش في التفاصيل. فالفدرالية تؤخذ كلها.
        يرفضون أية تدرجية بدءا من حكم محلي واسع الصلاحيات (كتجريب واختبار وتدريب)، فالتغيير الشامل والثورجي والفوري هو الناجع بدلا من التدرجية التي تتيح لأعداء الفدرالية ( = الثورة المضادة او أعداء الثورة) الوقت والامكانات للانقلاب على هذا "المنجز التاريخي".
        الفدراليون استعلائيون _ عن جهل وكِبْر مرضي _ كما ايديولوجيي وثورجيي العقود الماضية. إما أن يقبل اليمنيون بدينهم، جملة، وإما أنهم رجعيون ومتأخرون حضاريا، ويوالون "المركز المقدس" أو ينتمون إلى محافظاته. والمركز المقدس، هنا، مفهوم صلصالي يتشكل وفق هوى المتحدث أو المتشدق بنظرية الانفكاك عنه. قد يكون الرئيس السباق صالح وجماعة مقربيه وأقربائه الذين كانوا يشاركون سلطة القرار خلال حقبة حكمه. أو يتجاوز دوائر القرار في العاصمة ليشمل قبيلة حاشد ومراكز النفوذ القبلية والعسكرية في المناطق القريبة من العاصمة. وقد ينفتح على مناطق جغرافية بأكملها في ما يشبه أخذ المظلومين بجريرة الظالمين.
***
        الفدرالية، مرة عاشرة أقول، هي الدين الجديد للنخبة السياسية اليمنية الفاسدة. لنخب الخمسينات والستينات والسبعينات التي شاخت وهرمت لكنها لا تريد ان تغادر منصة العرض.
         وهي، بالتالي، الحشيش الذي تروجه هذه النخبة ل"جماهير" الشعب اليمني العظيم لتصطبر على البلاء المقيم في اليمن في انتظار الجنة التي وعد بها "أهل موفنبيك" اليمنيين المؤمنين!
***
       بوسع أي كان الادعاء بأن مشكلة اليمنيين بدأت في 19 يناير 2015 عندما أكمل الحوثيون سيطرتهم على العاصمة صنعاء، وصفوا "المربعات الأمنية" للرئيس هادي. بالوسع العودة إلى 21 سبتمبر الذي أفرز اتفاق سلم وشراكه وقع عليه الأطراف جميعا. يمكن العودة إلى بناير 2014 عندما فرض الرئيس هادي وحلفاؤه في المشترك صيغة قرار يفوضه تقسيم اليمن سياسيا إلى عدد من الأقاليم (كان هادي ومستشاروه باستثناء الدكتور ياسين سعيد نعمان المتشبث بتقسيم اليمن إلى اقليمين، قد قرروا سلفا التقسيم إلى 6 اقاليم). يمكن العودة إلى الوثيقة المقترحة من جمال بنعمر في خريف 2013 والتي تقوض "الكيان الوطني" لليمنيين وتؤسس لفتنة طائفية في اليمن من خلال التمييز تشريعيا في حقوق المواطنة. يمكن العودة إلى مطلع 2013 عندما قرر الرئيس ومستشاروه وجمال بنعمر وسفراء الدول الراعية (والحوثيون معهم) المخاطرة بالسلم الأهلي عبر أخذ "اليمن" إلى طاولة حوار حول الدولة والنظام السياسي والنظام الانتخابي والعدالة الانتقالية ومشكلة صعدة والقضية الجنوبية والجيش والأمن والسلاح الميليشوي و"زواج الصغيرات" وشحة المياه وكل ما يخطر على بال خبراء الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمات التابعة لهما. اتخذوا قرارهم بعقد المؤتمر قبل أية تهيئة للحوار تتصل بالأوضاع في صعدة والجنوب. يومها تشاركوا جميعا في "صناعة إجماع" ضدا على عضوي اللجنة التحضيرية للحوار رضية المتوكل وماجد المذحجي اللذين استقالا احتجاجا على هذا القرار الأخرق. كانت صناعة الإجماع تستهدف حرمان المظلومين من حقوقهم وتحويل القضية الجنوبية وقضية صعدة إلى ورقتين تفاوضيتين على الطاولة (أو تحت الطاولة) وابتزاز اليمنيين العاديين من أجل القبول بصيغة مقررة سلفا ( في الخطوط الرئيسية على الأقل) للتمديد لسلطة الرئيس هادي وحكومة الوفاق، ولتقسيم اليمن سياسيا بذريعة أن التقسيم هو الحل الوحيد الذي يقبل به الجنوبيون. وقد جرى تمرير الفدرالية في سياق تآمري كهذا.

         يمكن العودة إلى نقطة أقدم في الزمان لفهم ما جرى. إلى التقاسم الاجرامي للوظيفة العامة ولمؤسستي الجيش والأمن من قبل الأطراف السياسية الموقعة على المبادرة الخليجية. إلى انشقاق علي محسن الأحمر في 21 مارس 2011 وتحالفه مع المشترك من أجل تحويل الثورة الشعبية إلى أزمة سياسية بين المؤتمر الشعبي واللقاء المشترك. إلى انفراد الرئيس صالح في ديسمبر 2010 بتقديم مشروع تعديلات دستورية غير متفاهم عليه مع المشترك. إلى فشل الانتخابات الرئاسية في تحقيق تغيير سلمي للسلطة. إلى حرب 1994 التي شكلت ضربة قاصمة للديمقراطية وصدعا عظيما في الوحدة... (يمكن لأي كان السفر في الماضي إلى ما هو أبعد؛ عقود، قرون، ألفية، الفيتين، إلى هيمنة مملكة حمير على اليمن القديم وتقويضها مملكة حضرموت، او إلى تحالف سبأ وحضرموت لإنهاء مملكة أوسان!)
       بوسع أي كان الإفلات عبر رجعة في الزمن حسبما يعن له. لكن الشاهد أن المسار الكارثي بدا عندما تنازل الاشتراكي والناصري والحوثيون والحراكيون الممثلون في اللجنة التحضيرية للحوار الوطني، عن التهيئة للحوار طيق "نقاط الحد الأدنى" التي اشتهرت اعلاميا ب"النقاط ال20".
       اسقطوا البديهيات من اجل الدين الجديد الذي اعتنقوه.
      لقد قدموا الضحايا قربانا على مذبح الفدرالية.
     ارادوا تفكيك اليمن بأي ثمن حتى لو كان اطنان من دماء الأبرياء.
     إذ كيف يمكن تفكيك دولة دون "كراهية" و"احتقانات" و"جروح مفتوحة" و"ملفات ساخنة" وحرائق يتم تغذيتها بالوقود دوريا؟
      كيف؟
***
        اسقطوا البديهيات فسقطت الدولة، وتغولت الجماعات المسلحة.
        والآن يتحاورون مجددا، ويراوحون حول مخرجات حوار محكوم عليه بالفشل منذ ما قبل انطلاقه.
        يفعلون كل هذا ويزدادون تمسكا بالفدرالية بما هي "مكسب تاريخي"!
        هؤلاء هم أصل البلاء وسبب الكارثة.
_______________
________________
*في التعليق الاول رابط لمقال عن لحظة التفويض لهادي في 14 يناير 2014.
   http://almasdaronline.com/article/53679

https://www.facebook.com/sami.ghaleb/posts/10153284261555312?fref=nf
·

الأحد، 1 مارس 2015

الحوثي الحبيس ك"زيدي" مزدوج في مواجهة اغلبية سكانية لا ترى الفارق!

 
        _ لو أن في اليمن بيئة سياسية مستقرة وديمقراطية لكان أمام الحوثيين خياران؛ إما التفكير بتطوير صيغتهم التي نجمت عن الحرب الأولى، ثم ال5 حروب التالية،بالتكيف مع العملية السياسية في اليمن والتحول إلى حزب سياسي طبقا للدستور وقانون الاحزاب، وإما الانكفاء سياسيا والتموضع دينيا باعتبارهم جماعة منصرفة إلى ممارسة نشاطات توعوية وتعليمية وبحثية في إطار "الزيدية".
       _ لكن الرئيس هادي وأطراف المبادرة الخليجية أخذوا اليمن ك"كيان" والسلطة السياسية غير المستقرة والنظام الانتخابي ومشكلة صعدة والقضية الجنوبية، إلى طاولة الحوار في موفنبيك قبل عامين. وقد تسبب هذا التكديس للقضايا في مكان واحد وفي "زمن" انتقالي، في هذه الفوضى العارمة التي يعيشها اليمنيون اليوم.
       _ لأسباب متصلة بالجوهر الديني لجماعة الحوثيين والمحددين الجغرافي والعنفي للجماعة، فإن عبدالملك الحوثي يجد نفسه مضطرا إلى "التحالف مع الشيطان" في ظرف تفكيكي للدولة وتفتيتي للمجتمع وتقاسمي للسلطة.
        _ صار الحوثيون الذين كانوا يتحرجون من تقديم أنقسهم كجماعة طائفية أكثر جرأة في السنوات الأخيرة. وفي الموازاة للثورة الشعبية السلمية في فبراير 2011، حقق الحوثيون "انتقالة سلسة" من "جماعة الشعار" التي صارت اعلاميا منسوبة إلى مؤسسها الشهيد الراحل حسين بدر الدين الحوثي، إلى جماعة "أنصار الله" التي يقودها شقيقه عبدالملك الحوثي.
       _ في اليمن يوجد 3 مذاهب دينية، أو فرقتان ومذهب؛ الاسماعيلية والزيدية والشافعية. وفي تقديرات الاوزان من حيث السكان والجغرافيا (فالتعداد السكاني لا يحتوي على بند يتعلق بالمعتقد او المذهب الديني) فإن أغلبية كبيرة من السكان هم من اتباع المذهب الشافعي ثم يحل ثانيا (ولكن بمسافة) اتباع المذهب الزيدي (نحو ربع السكان)، واخيرا الاسماعيليون الذين يتمركزون في مناطق في غربي الهضبة وبعض الجيوب الحضرية في اليمن، ويُقدر عددهم باقل من 5% من السكان.
       _ هناك حضور لمذاهب وفرق دينية أخرى لكن التطرف الديني _ وأحيانا الإرهاب_ وتصدر الهوية الطائفية للسنة والزيدية كمستوى تعريف اول بفعل الجماعات المسلحة في اليمن، كل أولئك أدى إلى انكماش اتباع هذه المذاهب والفرق، طلبا للسلامة وتفاديا للمشاكل.
_ هناك ما يمكن وصفه ب"التقاطع" المثير للدهشة، وللقلق أيضا، بين المذهب والجغرافيا، وبالتالي القبيلة. صحيح أن هناك تشابكا يبلغ احيانا حد التعقيد، بين اليمنيين في المدن الكبرى_ وخصوصا صنعاء_ لكن الزيدية ارتبطت خارج معاقلها في اليمن، باليمن الأعلى، او "مطلع" او "الشمال الزيدي". تاريخيا كان الزيدي _ في عيون اليمني العادي في اليمن الأسفل والجنوب عموما_ هو العكفي (العسكري النظامي او البرّاني) الذي يمثل الذراع الباطشة للإمام. وهكذا فإن بعض التظاهرات التي تخرج في "منزل" أو الجنوب عموما، تنادي، أحيانا، بطرد "الزيود"، بما هم جهة متغلبة على جهات اليمن الأخرى وليس في كونهم يمنيين يعتنقون المذهب الزيدي.
         _ نظرا للتشوهات في النسيج الوطني، والاخفاقات في مسيرة ثورة 26 سبتمبر 1962 في اليمن الشمالي الذي صار "الجمهورية العربية اليمنية"، فإن التطابق بين الزيدية الدينية والزيدية الجغرافية أخذ يفقد "واحديته" أو انسجامه. وانطلاقا من نهاية الستينات ثم خصوصا من نهاية السبعينات، كرست السياسة والانقلابات ثم الدور السعودي المتنامي بمحمولاته الدينية، حالة التمايز_ أو ما يبدو أحيانا أنه افتراق_ بين "الزيديتين" في اليمن؛ صار في اليمن من في وسعه القول بأن هناك زيدية جغرافية وأخرى عقائدية او دينية. هذا التمايز أو الافتراق يتسبب بصداع مزمن للباحثين الأجانب، إذ كيف يكون الرئيس السابق علي عبدالله صالح والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر زيديين في نظر سكان اليمن الأسفل وقبائل المشرق، ثم الجنوب عموما، بينما هما عدوان للزيدية في نظر الحوثيين!
_ الافتراق بين الزيديتين لم يأخذ الطابع العنفي إلا في عام 2004 عندما أدت ملابسات في العلاقة بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح وقائد جماعة الشعار إلى أزمة تفاقمت في وقت قياسي لتأخذ منحى قتاليا عندما قرر الرئيس صالح التخلص من حليف (افتراضي أو "مستقبلي" للمواجهة المتوقعة مع الأخوان المسلمين) بالقوة المسلحة. وقد تضافرت عوامل سياسية ودينية واقليمية وشخصية ( إذ تتردد أقاويل عن اهانات متبادلة بين الرجلين) ضدا على حسين بدر الدين الحوثي الذي كان في سلوكه كسياسي ورجل دين أقرب ما يكون إلى نمط القيادات المثالية. وقد دفع الرجل حياته ثمنا لما يعتنقه من مبادئ وأفكار.
         _ في 2011 اندلعت ثورة اليمنيين، زيودا وشوافع واسماعليين، ضد الرئيس صالح ونظام حكمه. كانت ثورة اليمنيين الأفراد، ثورة المواطنيين ضد التمييزيين من أصحاب الامتيازات وجماعات المصالح والنفوذ. لكن تطورات في مسار الثورة أدت إلى انشقاقات وتصدعات في جسم السلطة أربكت اليمنيين الذين خرجوا طلبا للمستقبل وشرذمتهم ذلك لأن القسم المنشق عن صالح تحول إلى سلطة موازية تتحكم بالساحات. هكذا فإن الثورة التي بدت في مطلعها وكانها ثورة ضد الاستبداد المستقوي ب "الزيدية الجغرافية" على اليمنيين جميعا، من صعدة إلى عدن، انتهت إلى ما يمكن وصفه بأزمة طاحنة بين محتكري تمثيل "الزيدية الجغرافية"، خرج منها منتصرا الطرف الألصق بالتجمع اليمني للإصلاح (الآخر الايديولوجي للحوثيين).
        _ بكلمة أخرى فإن الثورة التي قامت ضد "الزيدية الجغرافية" ممثلة بصالح وعلي محسن وكبار المراكز القبلية في الشمال، استقطبت في أيامها الأولى "الزيدية العقائدية" وكل اليمنيين المتطلعين إلى دولة مواطنة في الشمال الزيدي. لكنها في نهاية الأمر، وبسبب مسار سياسي انتقالي كارثي، أوحت بأن الشطر الأكثر "سنية" في السلطة المتكئة على الجغرافيا الزيدية خرج منتصرا بشكل حاسم، ما أدى إلى استنفار "الزيدية العقائدية" حركيا فور تشكيل الهيئات الانتقالية في نهاية العام نفسه (خريف 2011). (يمكن قراءة الوثيقة الفكرية للزيدية التي تم التوقيع عليها في مطلع 2012 في هذا السياق)
         _ لم تقرأ الأحزاب السياسية جيدا ما حصل في 2011. وهي تقاصرت عن إدراك عمق التحولات في اليمن، والانقلاب في الأوزان والأدوار جراء ثورة المواطنين التي بلغت أوجها في مارس 2011. في نظر قيادات الأحزاب والرئيس هادي ظل الكبير كبيرا والصغير صغيرا. فتقاعسوا وتلكأوا وراوحوا ثم انطلاقا من تقدير خاطئ وانتهازي بان أمام اليمنيين فرصة تاريخية للإفلات مما يسمونه "المركز المقدس"، أخذوا اليمن، بأسلوب اعتباطي وبدائي، إلى منحدر "الفدرالية".
        _ في الأعوام ال3 الماضية استثمر الحوثيون (بما انهم الزيدية العقائدية أو الدينية) الإحباط الشديد لدى اليمنيين جراء اختزال ثورتهم في مجرد ازاحة رئيس، وأخذ سلطتهم إلى التقاسم، وأخذ بلدهم إلى التقسيم. وقد استطاع الحوثيون إعادة تحشيد "الزيدية الجغرافية"باسم العقيدة ونصرة الله ومنع التمزيق. كان ذلك متوقعا في سياق العملية الانتقالية وما رافقها من خطاب ديماغوجي شعبوي يصوِر الصراع على أنه بين "جهات" لا بين ظالمين ومظلومين في عموم اليمن. ومن تجليات هذا الخطاب العصبوي أن سكان الرقعة الجغرافية الزيدية _ وهذا التوصيف نسبي_ صاروا جزءا من المشكلة في النقاش العام الذي اتسم بالقطعيات والاختزال وتملق مشاعر البسطاء، توطئة لتقسيم سياسي للكيان الوطني لا يقوم على أي سند من الواقع.
         _ كان الحوثيون المتضررون من تنامي حضور "الأخر الجوّاني" في السلطة والمجتمع (الإصلاح وحلفائه)، يتحركون بحرية في الشمال مستفيدين من القيود المفروضة على "الآخر الجوّاني" لخصمهم الذي في الحكم (والآخر الجواني للإصلاح ليس سوى الرئيس السابق صالح وحزب المؤتمر الشعبي). هكذا تعمق تحالف بين "انصار الله" والرئيس السابق صالح ضدا على "انصار الثورة" ممثلين بالتجمع اليمني للإصلاح واللواء علي محسن الأحمر والشيخ حميد الأحمر وأخوته. بعبارة أخرى، تحالفت "الزيدية الدينية" مع شطر من "الزيدية الجغرافية" ضدا على الشطر الذي استمر في الحكم من "الزيدية الجغرافية".
        _ في سبتمبر 2014 تقدم الحوثيون إلى العاصمة ثم انطلقوا إلى محافظات أخرى في الوسط والغرب والشرق. كانوا في حقيقة الأمر يعيدون الأمور إلى نصابها، أي توحيد "الزيديتين"، الجغرافية والدينية، في أعين اليمنيين الآخرين.
          _ لكن الحوثية ليست مجرد مذهب. هي جماعة لها تصوراتها الثورية الرومانسية. ومن هنا يمكن تفسير النقمة التي تتلبس أي "حوثي" جراء صورته السلبية في عيون "الآخر الجوّاني"، الآخر الجواني الذي صار كل من هو ليس حوثيا. يرى الحوثي نفسه منقذا حرر اليمنيين من مراكز القوى والنفوذ واطاح بمنظومة حكم فاسدة ويحمل في جوانحه أفكارا ثورية نبيلة ستغير وجه اليمن، بينما يراه اليمني الآخر صورة أكثر جهامة وقسوة وأشد ظلامية ل"الزيدي" الذي كان يتسلط عليه طيلة العقود ال3 الماضية. [لقد كتبت مرارا ناصحا قيادة الجماعة بأن ترى صورتها في عيون اليمنيين من غير اتباعها لكن عبدالملك الحوثي يعتمد طريقة تواصل من اتجاه واحد دون اكتراث لعواقب ما يفعله باليمنيين.]
       _ اليمن ذاهبة إلى حروب عصبوية. حروب مغلفة بالثورة والوحدة والشراكة لكنها في حقيقتها حروب طائفية. إن أكثر ما تستحضره ذاكرة اليمني المعاصر خلال الأشهر القليلة الماضية، هو حروب الماضي البعيد والقريب. حروب اجتياح قبائل الشمال للجنوب عموما. يستحضرون "الفتوحات الإمامية" والغزوات المتعاقبة التي هبطت من ذرى الهضبة إلى السهول والسواحل عبر الألف السنة الماضية وحتى حرب صيف 1994، متلبسة بالدين متوسلة السيطرة والاستحواذ على السلطة والثروة. [يُشار في المقابل، إلى أن حروب صعدة ال6 في عهد الرئيس السابق صارت _في ظل التحالف المعلن بين الحوثي وصالح_ محض ذكرى لدى جماعة الحوثيين في حين يفصح بعض منتسبي الجماعة عن موقف راديكالي يدين ثورة 26 سبتمبر 1962 ويستدعي حرب الملكيين والجمهوريين]
        _ يؤدي الجموح العسكري للحوثيين وبخاصة الوسائل الاحتثاثية للخصوم الأيديولوجيين، إلى تأجيج المشاعر الدينية الطائفية في اليمن. لا يتحسب الحوثيون في غمار "حروبهم الاستردادية" للعواقب. وهم فعليا يهيئون ل"القاعدة" البيئة المثلى للنشاط في اليمن. الإنجاز الأعظم للحوثي وحلفائه في المدى القصير _ يجب ان نقول هذا بوضوح_ سيتمثل في إسهامه في تحويل "انصار الشريعة" في اليمن (فرع تنظيم القاعدة) من جماعة منبوذة إلى "داعش"، إلى تنظيم دولة اسلامية يمني.
       _ يضاف على الاجتثاث للآخر العقائدي، السلفيين أساسا، إعمال العنف والقوة في مواجهة التجمع اليمني للإصلاح (الفرع الاخواني في اليمن) ثم التهديد الصريح بحظره. هذا الإعمال الأخرق للعنف والقوة، يدفع القاعدة الشعبية العريضة لهذا الحزب نحو التموضع طائفيا ك"اهل السنة" وحربيا ك"مجااهدين" او أنصار شريعة!
       _ ينسى الحوثيون وحلفاؤهم (الزيديتان الجغرافية والعقائدية) أن هناك تيارا كبيرا من "السلفية" في اليمن منتشر في كل مناطق اليمن الكبير. وهؤلاء يلتزمون، في اغلبيتهم الساحقة، النهج السلمي في نشاطهم. لكن سلوك الحوثيين العنفي (الاستكباري، بلغة الحوثي نفسه) سيحفز الاتجاه العنفي عند هؤلاء فيلتحقون ب"السلفية الجهادية" ممثلة ب"أنصار الشريعة" او أي تطور "انصاري" في اليمن!
       _ أغلبية الزيود ليسوا "حوثيين" بل يمنيون محرومون، يريدون السلام وينشدون حياة كريمة ويرفضون العنف والتشدد الديني، ويتطلعون إلى دولة مواطنين تصون كرامة أي يمني، واغلبية الشوافع لن يصيروا "سلفيين". لكن احتكارات التمثيل وشيوع العنف قد يمكِن جماعة مسلحة في الجنوب وبلاد المشرق و"اليمن الأسفل" من تقديم نفسها للسكان ك"نظير" لجماعة "انصار الله".
      _ اليمنيون العاديون ليسوا طائفيين ولا مناطقيين. الأغلبية الساحقة منهم مستقلون، غير منتظمين في أحزاب أو جماعات. لكن هذا زمن احتكارات التمثيل. والحروب الاهلية تنجم غالبا عن مقامرات ومشاريع محتكري التمثيل. وفي اللحظة الراهنة هناك من يحتكر تمثيل الزيدية، ومن يسعى الى احتكار تمثيل "السنة"، ومن يتوهم انه يحتكر تمثيل الجنوب... وهكذا.
***
إنها الحرب!