السبت، 22 أغسطس 2015

فول حقبة "الدولة الحاجز" في جنوب الجزيرة وهذه لحظة الانقلاب على ثوابت السياسة السعودية في اليمن

_ بدأها الغساسنة اليمنيون في جنوب سوريا وجربها البربطانيون بمشروع دولة "الجنوب العربي" وأداها "الشمال" في مواجهة الشيوعية اثناء الحرب الباردة
_ من الحرب ضد الناصرية إلى الحرب ضد الإرهاب إلى الحرب ضد "الهلال الشيعي"!

_ دولة يمنية عصرية وحدها من يضمن الأمن والسلام في الخليج والجزيرة العربية

______________________________________________________
في القرن ال21، في عصر داعش والغُبر بشتيت أصنافهم، ما عاد هناك محل ل"الدولة الحاجز"، تلك الدولة التي تؤدي دور "الحارس" أو المركز الحدودي، في مواقع متقدمة لصالح دولة أكبر او كبرى.
عبر التاريخ احترف اليمنيون (بصرف النظر عن تقسيماتهم المناطقية والقبلية والايديولوجية الراهنة) تأدية دور "الدولة الحاجز".
في جنوب الشام قامت دولة "الغساسنة" في القرن السادس بهذا الدور لصالح الروم. وفي العصور الاسلامية الوسيطة قامت دول يمنية عديدة في خدمة مركز الخلافة الاسلامية (دمشق وبغداد ثم القاهرة). ويسجل التاريخ، دون تفصيل، قصة تمرد الملكة أروى (الدولة الصليحية) على هذا الدور الذي أراده الفاطميون في مصر. وبعد احتلال عدن عمدت حكومة الهند البريطانية (ثم الخارجية البريطانية) إلى انشاء "دويلات" حارسة في الجنوب والشرق اليمنيين للحد من أي تغلغل عثماني (من الشمال) أو إمامي. في البدء ادار قائد عملية احتلال عدن الكابتن هانز اتصالات مع المشيخات الواقعة في القوس الذي يطوق من البر، عدن، انطلاقا من الحجرية وانتهاء بمشيخة الفضلي عبر معاهدات صداقة. ثم مع الاحتلال التركي الثاني لليمن في السبعينات من القرن ال19 تطورت المعاهدات إلى اتفاقيات حماية. وبعيد الانسحاب التركي من اليمن في العقد الثاني من القرن ال29 طور البريطانيون علاقتهم بالمحميات إلى نظام "المستشارين" الذين صاروا أصحاب الكلمة الفصل في الشأن الأمني. ويمكن الاستدلال هنا بالدور الحيوي الذي لعبه هارولد انجرامز مسشار السلطنة القعيطة في الحد من تطلعات بعض ابناء الأسرة الحاكمة ممن أرادوا علاقة طيبة بالمملكة المتوكلية في اليمن الشمالي، وكذا المضايقات التي تعرض لها العلامة الشهير عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف مفتي حضرموت. لقد دعم الانجليز خلال قرن وثلث، دويلات حاجز في جنوب الجزيرة العربية للحؤول دون أي تغلغل أو تمدد للاتراك أو الأئمة في الجنوب والشرق. وفي مطلع الستينات سرّعوا في خطوات قيام دولة "الجنوب العربي" التي توسلوا أن تكون مانعا ضد الإضرار بنفوذهم في خليج عدن والخليج، لكن المد الوطني اليمني والقومي العربي اسقطا آخر "دولة حاجز" للبريطانيين في الجنوب قبل أن نقف على قدميها. وقامت جمهورية يمنية في الجنوب بقيادة الجبهة القومية (30 نوفمبر 1967).
***
بعد الحرب الأهلية (بين الجمهوريين والملكيين في الشمال) تموضع اليمن الشمالي في السياسة السعودية طيلة السبعينات والثمانينات ك"دولة حارس" في مواجهة قوى اليسار في الشمال وللحد من تأثير النظام اليساري المتشدد في اليمن الجنوبي.
منذ نهاية التسعينات بدأ اليمن (الواحد) في لعب دور "الدولة الحاجز" في مواجهة التيارات الجهادية ثم القاعدة التي بدأت عملياتها ضد السعودية.
***
أدارت الرياض علاقتها باليمنيين انطلاقا من هذه الزاوية. وقد درجت العادة على وصف اليمن (يمن النصف الثاني من القرن ال20) بأنه "الحديقة الخلفية" للسعودية. هذا التوصيف لا يفسر بدقة طبيعة العلاقة بين بلدين متجاورين تأرجحت العلاقة بينهما في العقود الأولى من القرن ال20 بين التنافس والتسابق والحرب. وبعد غفوة قصيرة في منتصف القرن الماضي تحولت العلاقة إلى صراع مستعر طيلة الستينات بعد اندلاع ثورة في اليمن الشمالي اطاحت بالحكم الإمامي (الملكية) وتعامل السعوديون معها باعتبارها تهديدا وجوديا يتوجب احتواءه والتصدي له في داخل الأراضي اليمنية ومن هنا كان الدعم اللامحدود لأنصار الإمام البدر في مناطق الشمال. لكن ثورة أخرى اندلعت في الجنوب بدعم من مصر وفرت متنفسا لثوار الشمال قدر ما وفرت قاعدة لثوار الجنوب في تعز.
في مطلع السبعينات (بعد هزيمة العرب في 67 ثم وفاة جمال عبدالناصر) صارت السعودية المتحالف مع الغرب في الحرب الباردة، الفاعل الاقليمي الأول المتحكم في اليمن الشمالي الذي صار "دولة حاجز" او "دولة حارس".
في 11 اكتوبر 1977 جرى اغتيال الرئيس ابراهيم الحمدي الرئيس اليمني الشمالي (رئيس مجلس القيادة عقب حركة الجيش في 13 يونيو 1974) لأسباب عديدة أبرزها علاقته المتنامية بالرئيس اليمني الجنوبي سالم ربيع علي.
في يوليو 1978 صعد الرائد علي عبدالله صالح الى "كرسي حمير" في الشطر الشمالي من اليمن متطوعا للعب "الحارس" للمصالح السعودية محيلا اليمن الشمالي إلى دولة حاجز (أو حارس) تحارب الفصائل اليسارية والقومية، وتحد من مخاطر النظام الماركسي في الجنوب الذي بدا أن كفته ترجح في موازين القوة والتأثير خصوصا بعد اغتيال الرئيس الحمدي، إذ ان الرئيس سالم ربيع علي (أو المجموعة الحاكمة في عدن) دبروا عملية اغتيال للرئيس الجديد أحمد الغشمي عبر مندوب رئاسي جنوبي يحمل حقيبة مفخخة انفجرت في وجه الغشمي في مقر القيادة يوم 24 يونيو 1978. ثم ان حربا بين اليمنين الشمالي والجنوبي اندلعت مطلع 1979 تقدم خلال فترتها القصيرة (نحو شهر) الجيش الجنوبي الى تخوم قلب الدولة الشمالية.
في النصف الأول من العقد التالي (الثمانينات) تمكن صالح من توجيه ضربات قاصمة لفصائل اليسار عموما، ثم بدءا من منتصف الثمانينات (أحداث 13 يناير 1086 في الجنوب) بدأ كفة الشمال ترجح ضد الجنوب، وتحول النظام في الشمال من نظام تسلطي "انعزالي" إلى نظام بشهية "مفتوحة" يتطلع إلى "وحدة" متحكم بها مع الجنوب، يشجعه على ذلك الانقسام في جسم الدولة الجنوبية وتوجهات الزعيم السوفييتي الجديد جورباتشوف، ومستفيدا من تنامي قوة القاعل الاقليمي الثاني في اليمن (عراق صدام حسين).
في نهاية الثمانينات تحمس علي سالم البيض أمين عام الحزب الاشتراكي الحاكم في عدن لوحدة فورية قكان اتفاق 30 نوفمبر 1989، وقامت الدولة اليمنية الواحدة بمباركة اميركية وعربية خصوصا مع أفول الاشتراكية في المركز السوفييتي.
قامت الدولة الجديدة في عدن (برفع علم الجمهوية اليمنية) وبدأ الإرباك السعودي حيال "الجار الطبيعي" الذي لاح وكأن قادته (صالح والبيض) يديران ظهرهما للسعودية مقبلين على الرئيس العراقي الذي بارك الوحدة وربما عجّل بقيامها أثناء لقائه بهما خلال اعمال قمة عربية استضافتها بغداد في ابريل 1990.
في اغسطس 1990 (بعد قيام الدولة الجديدة) اجتاح الجيش العراقي الكويت، وبدا من سلوك القيادة اليمنية في صنعاء انها تؤيد التصعيد العراقي الخطير وتعطل إجماعا عربيا ضده، فتعين الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح "عدوا" للمصالح السعودية لا "حارسا" لها.
تعرضت الدولة الجديدة التي خسرت حليفا اقليميا بقدر ما خسرت زخما شعبيا جراء تباطؤ اجراءات الدمج ثم بسبب تصدع الثقة بين الرئيس صالح ونائبه علي سالم البيض، وبدء مسلسل اغتيالات (يعتقد ان اسلاميين متشددين نفذوها لحساب الرئيس صالح ومساعده علي محسن الأحمر) استهدف كوادر الحزب الاشتراكي في صنعاء وعمران وإب وتعز وأبين.
عقب اول انتخابات برلمانية في الدولة الجديدة (ابريل 1993) اندلعت ازمة سياسية حادة بين الرئيس صالح ونائبه البيض الذي عبر صراحة عن رفضه الاستقواء بالأغلبية العددية في البرلمان المنتخب الذي استحوذ صالح وحلفاؤه على نسبة الثلثين من مقاعدة.
غادر البيض صنعاء الى الولايات المتحدة الاميركية للعلاج. وعاد بعد شهرين إلى عدن وكانت تلك العودة رسالة صريحة على ان الحزب الاشتراكي اليمني يرفض الاستمرار في "وحدة" يستقوي فيها شريكه باغلبية برلمانية لتقويض وعود الوحدة وبخاصة دولة المواطنة وسيادة القانون.
في خريف العام نفسه بدأ حوار وطني امتد إلى فبراير 1994. وقد أفضى الحوار الى "وثيقة العهد والاتفاق" التي توسلت معالجة القضايا الشائكة بين الشريكين في قرار الوحدة، واعادة تصميم نظام هذه الدولة سياسيا وإداريا، عبر إعادة توزيع السلطة داخل المركز والمحافظات التي تقرر أن تتوزع داخل وحدات إدارية أكبر (مخاليف) وأن تمنح صلاحيات أوسع بما يضمن لامركزية ادارية تخفف من وطأة العاصمة "القاصمة" وتتيح مجالات للمبادرة الاهلية في المخاليف.
كانت تلك الوثيقة المتوافق عليها (والموقع عليها في العاصمة الأردنية عمان) بمثابة تقويض لدولة الرئيسس صالح السلطانية، وتجريف من أسفل لأعمدة نظامه. لكن البيض اليائس من صالح، لم يعد إلى صنعاء بل إلى عدن عبر الخليج. وقد استغل صالح الأمر رافعا لواء الشرعية الدستورية لحشد حلفائه ضد مخطط انفصالي للاشتراكي، فاندلعت الحرب في مطلع مايو 1994، بغية انجاز 3 أهداف: الأول معلن وهو منع انفصال الجنوب باسم الشرعية الدستورية، والآخر مضمر وهو الانفراد بالسلطة عبر تدمير الوحدات العسكرية الموالية للاشتراكي وإخراجه من السلطة بالقوة، والثالث مرجأ وهو حرق "وثيقة العهد والاتفاق".
في 7 يوليو 1994 اقتحمت قوات الشرعية عدن، وأرسل القائم باعمال رئيس الحكومة في صنعاء إلى مجلس الأمن رسالة تتضمن تعهدات بإعلان عفو عام وإعادة النازحين وتنفيذ "الوثيقة".
***
في تلك الحرب ظهر جليا ان الرياض تدعم مخططا لإعادة اليمن إلى ما قبل 1990. لكن الرغبة السعودية ارتطمت بإرادة دولية تدعم استمرار الوحدة، وبتطورات ميدانية لصالح "الدولة الحاجز" مكنت صالح من الاستحواذ على عدن. فصارت "الجمهورية اليمنية" حقيقة سياسية لا مناص من قبولها خليجيا وعربيا.
***
في العقد التالي تموضعت اليمن مجددا ك"دولة حاجز" ضد الإرهاب، خصوصا بعد احداث 11 سبتمبر 2001 التي جعلت من "الإرهاب" العدو الأول في نظام دولي وحيد القرن بعد أن كانت الشيوعية هي التهديد الأول للعالم الحر (الغرب وحلفائه في العالم العربي) منذ نهاية الاربعينات.
في الأثناء كانت إيران تتغلغل في المشرق العربي والخليج والجزيرة عبر أدوات متنوعة. وفي 2004 شن الرئيس صالح حربا داخلية جديدة ضد جماعة ايديولوجية تتخذ من محافظة صعدة معقلا لها، هي جماعة الحوثيين (نسبة الى زعيمها حسين بدرالدين الحوثي).
كانت صعدة تقع في نطاق المنطقة العسكرية الشمالية الغربية التي يقودها علي محسن الأحمر أبرز مساعدي الرئيس، والشخصية الثانية في الشبكة العسكرية الأمنية الاجتماعية التي تطبق على "اليمن" منذ حرب 1994 وعلى "اليمن الشمالي" من قبل، منذ 1978.
اندلعت الحرب لاعتبارات محلية في الأساس. لكن من الخفة تجاهل الدوافع الاقليمية من وراء شنها.
كان للحوثيين صلات ايديولوجية، وربما أمنية وسياسية، بإيران الطامحة، وكانت السعودية تتأهب لمنازلة العدو الاقليمي الجديد _ بعد زوال نظام صدام حسين في العراق_ في لبنان وسوريا والبحرين والعراق واليمن.
في الواقع كان الرئيس علي عبدالله صالح يستعد مجددا للعب دور الحارس لصالح السعودية. وكانت "الجمهورية اليمنية" تتعين مجددا ك"دولة حاجز" ضد الخطر الشيعي أو ما أطلق عليه "الهلال الشيعي" في منتصف العقد الماضي.
بعد 6 حروب في صعدة (شاركت في الأخيرة منها المملكة العربية السعودية رسميا) بقي الحوثيون شوكة تؤرق السعودية على الحدود الجنوبية الغربية.
وفي فبراير 2011 اندلعت ثورة شعبية عارمة حتمت خروج صالح من الرئاسة وجلوس رئيس جديد على "كرسي حمير" الذي لا يستقر عليه إلا من احتمل لدغات الأفاعي والثعابين حسبما تقول العرافة الحميرية في كتب المؤرخين القدامي في اليمن.
لم يظهر الرئيس الجديد عبدربه منصور هادي خلال العامين الأولين (مدته الرئاسية) أية مهارات استثنائية في ادارة الملفات الساخنة في اليمن. باستثناء الحرب على الإرهاب التي بدا متحمسا لخوضها (وهو على أية حال لم يحقق اختراقات كبيرة في جبهتها) فإن الرئيس الجديد اخفق في الجبهة الشمالية الغربية رغم ان قائدها (علي محسن الأحمر) هو أهم مساعديه.
تنامى نفوذ الحوثيين في الشمال. ونالوا القبول في النادي السياسي بالعاصمة، وصاروا فاعلا سياسيا في العملية السياسية الانتقالية عبر مشاركتهم في مؤتمر الحوار الوطني بتشجيع دولي، غربي اساسا.
في صيف 2014 حاولت الرياض تدارك التأكل في نفوذها في اليمن واستعادة المبادرة ضد الخصم الاقليمي الأشد خطرا من أي عدو سابق (أي إيران). لكن محاولة رومنسية للجمع بين صالح وعلي محسن في إطار تحالف ضد الحوثيين بقيادة الرئيس هادي باءت بالفشل.
في يوليو 2014 سيطر الحوثيون على عمران (شمال صنعاء). وبعد شهرين فقط (سبتمبر) اجتاحوا العاصمة التي صارت، حسب تصريحات سياسيين ايرانيين، رابع عاصمة عربية تحتلها إيران.
***
كانت السعودية تتميز غيظا وهي ترى "دولتها" الحاجز تتحول بين عشية وضحاها إلى مركز متقدم للعدو الإيراني.
كان هذا انقلابا في حسابات الاقليم فوق قدرة اليمن ويتجاوز طاقة السعودية على الصبر.
ومن المرجح أن دوائر القرار في الرياض بدأت منذ سبتمبر تتدارس افكار حول التعامل مع هذا الخطر المتنامي في "الحديقة الخلفية".
***
في يناير 2015 استكمل الحوثيون انقلابهم على الشرعية التوافقية بالإطباق على آخر المربعات الأمنية في العاصمة. ومذّأك بدأت العاصمة السعودية التخطيط ل"العاصفة" التي ستستعيد من خلالها مهابتها الجريحة و"الدولة الحاجز" معا.
***
تسير العملية السعودية في اليمن بوتيرة متأرجحة. والأكيد ان التحالف الذي تقوده الرياض تمكن من تحقيق اختراقات مهمة في الشهر الخامس من الحرب. صار ل"الشرعية" موضعا رئيسا في الداخل بعد استرداد عدن من تحالف الحوثي_ صالح. وهناك تقدما حاسما في أغلب المحافظات الجنوبية والشرقية. وتسير الحرب في تعز وإب لصالح التحالف بينما يرجح أن تلعب جبهة مأرب الدور البارز في حرب احتواء الحوثيين.
***
من غير المحتمل ان تفرز هذه الحرب الاهلية اليمنية_ الاقليمية خارطة جديدة للجزيرة العربية. ومن الواضح _ حتى الآن على الأقل_ ان الرياض لا تريد تسليم راية "الوحدة اليمنية" إلى طرف يمني مجددا. لذلك فإنها تبدو شديدة الحساسية حيال أية دعاوات انفصالية في الجنوب خلاف دول خليجية أخرى تشارك في التحالف.
ما ذهب إليه بعض المعلقين الاميركيين من احتمال وجود مخطط سعودي لإنشاء هلال سني (ضدا على الهلال الشيعي!) في اليمن يطوق الحوثيين (أو الزيدية) من الجنوب والشرق والغرب، يبدو أقرب ما يكون إلى التهويمات الاستشراقية التي تستهوي بعض الباحثين الغربيين الذين، كما تلاميذهم العرب، يميلون إلى تنميط الظواهر الاجتماعية والسياسية، وبالتالي وضع اليمن في خانة "المشرق العربي" الذي يغرق منذ سنوات في حروب يتداخل فيها الوطني بالطائفي بالاقليمي.
إن السعودية لا تملك المجازفة بإنشاء دولة حاجز في الجنوب والوسط، على سبيل المثال، ضد الخطر الشيعي (في الشمال الزيدي المتخيل، فالواقع أن الشمال منظورا إليه غربيا وخليجيا وأحيانا، يمنيا، يتم اختزاله طائفيا بالضد من حقيقة ان الطائفية في اليمن لما تتمأسس حتى الآن في هذا الشمال على الرغم من المحاولات المستميتة للحوثيين في احتكار تمثيل الزيدية وفرض نموذج حركي يستلهم "حزب الله" في جنوب لبنان). هذا ليس عصر الحرب الباردة بين القطبين السوفييتي والاميركي، لتضمن انصباطا، مكفول دوليا، في حدودها الجنوبية. ثم ان تمزيق اليمن يعني استعار حروب الطوائف في اليمن، وتنامي الاستقطاب الطائفي والجهوي الذي ستستفيد منه الجماعات الاسلامية باعتبار ان حروب الطوائف هي "روح العصر" في العالم العربي. ثم أن دولة حاجز في الوسط والجنوب والشرق (باالانقصال أو بالتفكيك الفدرالي للدولة اليمنية) يعني ان الاقليم المخصص للمحافظات الشمالية الغربية (من ذمار إلى صعدة) والذي يمر من تحت جغرافية العاصمة اليمنية (الاتحادية) يعني أمرين: معزلا طائفيا جهويا لا انسانيا ضد "اليمنيين" في المناطق التي يتنمي اغلب سكانها الى الزيدية (وبالتالي بيئة حاضنة لأية جماعات شيعية متشددة تستثمر الاحباط الناجم عن هزم الحوثيين، او نسخة أكثر راديكالية من الحوثيين)؛ وجمهور واسع من اليمنيين الممزقين "هوياتيا" في بقية اجزاء اليمن (الاقاليم الخمسة الأخرى) تتنازعهم جماعات مصالح وأخرى جهوية وايديولوجية.
تخوض السعودية في اليمن حربا وجودية كما يظهر من جموح الخطاب والسلاح والاعلام.
لكن محصلة أي تفخيخ ل"الهوية الوطنية" قد تكون اخطر بكثير من مبررات خوض هذه الحرب. ذلك أن الشمال الزيدي الذي كان ركيزة الدولة الحاجز في السبعينات والثمانينات يصير وفق مخطط الرئيس الانتقالي هادي وخبراؤه الاستراتيجيون إمارة زيدية في الشمال (أقرب روحيا وسياسيا إلى طهران منها إلى الرياض). مثلما أن الهلال السني سيكون في ظل أفول "هوية وطنية يمنية" مشتلا مثاليا ل"داعش" يمني ينافس السعودية على تمثيل السنة من موقع اشد جذرية ضد "الفرس" و"الرافضة" و"المجوس".
***
السعودية في مأزق.
لكن اليمنيين عند حافة السقوط في وحل التمزق وحروب الطوائف.
هناك دائما فرص تمرق وتفوت وأخرى تلوح من وراء السنة النار واعمدة الدخان.
وهناك دروس وعبر من الماضي.
والدرس الأول سعوديا هو ان اليمن، ممزقا او موحدا، ما عاد "الدولة الحاجز" بأية حال.
والدرس الأول يمنيا وسعوديا ان تهديدا وجوديا لكيان دولة يعني بالضرورة تهديدا موازيا لكيان الدولة الأخرى.
اليمن (الشمالي ثم الجنوبي) والسعودية تعاصرتا في النشأة وتصارعتا في محطات في الماضي قبل أن ينحسم الصراع لصالح "الشقيقة الكبرى" في الجزيرة والخليج. وهذه الحرب الوجودية لأطراف عديدة في اليمن فضلا على السعودية، قد لا تتوقف آثارها التدميرية عند اللحظة الراهنة إن لم تتبلور رؤية جديدة للعلاقة بين اليمنيين والسعوديين تضع حدا لمقاربات الماضي التي جعلت من اليمن معزلا للفقراء ومشتلا للتطرف ومؤئلا للإرهاب. لكن هذا "المعزل" ليس من هذا العالم "الخليجي" فقط بل هو الجزء الأكثر عراقة فيه (العربية السعيدة قديما) وهو المعزل الذي يفيض، بموقعه وبخضائصه، بحيويته الاجتماعية وبثروته الثقافية وبشبابه، على الاقليم مهما علت الجدران على الحدود.
تعرض اليمن عبر التاريخ الحديث لمحن أقسى من هذه التي يعبرها الآن. وعندما تقرع أجراس السلام في القريب، سيرى العالم أن الشعب الذي يقطن هذه المنطقة المعذبة من جنوب الجزيرة العربية قادر على النهوض مجددا إذا كف جيرانه عن التعاطي معه باعتباره منبعا للأخطار والتهديدات، وإذا توقفوا عن مقاربته من زاوية "الدولة الحاجز".
هذا عصر مغاير.
واليمن لن يعود أبدا "دولة حاجز" لصالح أحد.
وعلى السعوديين والخليجيين ان يقرروا هم وجهتهم:
دولة أو دويلات "حاجز على شجرة المقامرات الاقليمية، أم معزل يمني وراء الأسوار، أم دولة يمنية عصرية تكون جزءا فاعلا في اقليمها وعالمها العربي.
هذا ليس قرار السعوديين وحلفائهم وحدهم.
هو أيضا، وأساسا، قرار اليمنيين.

الجمعة، 21 أغسطس 2015

ولت حقبة "الدولة الحاجز" في جنوب الجزيرة العربية وهذه لحظة الانقلاب على ثوابت السياسة السعودية في اليمن:

في القرن ال21، في عصر داعش والغُبر بشتيت أصنافهم، ما عاد هناك محل ل"الدولة الحارس"، تلك الدولة التي تؤدي دور "الحارس" في مواقع متقدمة لصالح دولة أكبر او كبرى.
عبر التاريخ احترف اليمنيون (بصرف النظر عن تقسيماتهم المناطقية والقبلية والايديولوجية الراهنة) تأدية دور "الدولة الحارس" أو المركز الحدودي المتقدم.
في جنوب الشام قامت دولة "الغساسنة" في القرن السادس بهذا الدور لصالح الروم.
بعد الحرب الأهلية (بين الجمهوريين والملكيين في الشمال) تموضع اليمن الشمالي في السياسة السعودية طيلة السبعينات والثمانينات ك"دولة حارس" في مواجهة قوى اليسار في الشمال وللحد من تأثير النظام اليساري المتشدد في اليمن الجنوبي.
منذ نهاية التسعينات بدأ اليمن (الواحد) في لعب دور "الدولة الحارس" في مواجهة التيارات الجهادية ثم القاعدة.
***
أدارت الرياض علاقتها باليمنيين انطلاقا من هذه الزاوية. وقد درجت العادة على وصف اليمن (يمن النصف الثاني من القرن ال20) بأنه "الحديقة الخلفية" للسعودية. هذا التوصيف لا يفسر بدقة طبيعة العلاقة بين بلدين متجاورين تأرجحت العلاقة بينهما في العقود الأولى من القرن ال20 بين التنافس والتسابق والحرب. وبعد غفوة قصيرة في منتصف القرن الماضي تحولت العلاقة إلى صراع مستعر طيلة الستينات بعد اندلاع ثورة في اليمن الشمالي اطاحت بالحكم الإمامي (الملكية) وتعامل السعوديون معها باعتبارها تهديدا وجوديا يتوجب احتواءه والتصدي له في داخل الأراضي اليمنية ومن هنا كان الدعم اللامحدود لأنصار الإمام البدر في مناطق الشمال. لكن ثورة أخرى اندلعت في الجنوب بدعم من مصر وفرت متنفسا لثوار الشمال قدر ما وفرت قاعدة لثوار الجنوب في تعز.
في مطلع السبعينات (بعد هزيمة العرب في 67 ثم وفاة جمال عبدالناصر) صارت السعودية المتحالف مع الغرب في الحرب الباردة، الفاعل الاقليمي الأول المتحكم في اليمن الشمالي الذي صار "دولة حاجز" او "دولة حارس".
في 11 اكتوبر 1977 جرى اغتيال الرئيس ابراهيم الحمدي الرئيس اليمني الشمالي (رئيس مجلس القيادة عقب حركة الجيش في 13 يونيو 1974) لأسباب عديدة أبرزها علاقته المتنامية بالرئيس اليمني الجنوبي سالم ربيع علي.
في يوليو 1978 صعد الرائد علي عبدالله صالح الى "كرسي حمير" في الشطر الشمالي من اليمن متطوعا للعب "الحارس" للمصالح السعودية محيلا اليمن الشمالي إلى دولة حاجز (أو حارس) تحارب الفصائل اليسارية والقومية، وتحد من مخاطر النظام الماركسي في الجنوب الذي بدا أن كفته ترجح في موازين القوة والتأثير خصوصا بعد اغتيال الرئيس الحمدي، إذ ان الرئيس سالم ربيع علي (أو المجموعة الحاكمة في عدن) دبروا عملية اغتيال للرئيس الجديد أحمد الغشمي عبر مندوب رئاسي جنوبي يحمل حقيبة مفخخة انفجرت في وجه الغشمي في مقر القيادة يوم 24 يونيو 1978. ثم ان حربا بين اليمنين الشمالي والجنوبي اندلعت مطلع 1979 تقدم خلال فترتها القصيرة (نحو شهر) الجيش الجنوبي الى تخوم قلب الدولة الشمالية.
في النصف الأول من العقد التالي (الثمانينات) تمكن صالح من توجيه ضربات قاصمة لفصائل اليسار عموما، ثم بدءا من منتصف الثمانينات (أحداث 13 يناير 1086 في الجنوب) بدأ كفة الشمال ترجح ضد الجنوب، وتحول النظام في الشمال من نظام تسلطي "انعزالي" إلى نظام بشهية "مفتوحة" يتطلع إلى "وحدة" متحكم بها مع الجنوب، يشجعه على ذلك الانقسام في جسم الدولة الجنوبية وتوجهات الزعيم السوفييتي الجديد جورباتشوف، ومستفيدا من تنامي قوة القاعل الاقليمي الثاني في اليمن (عراق صدام حسين).
في نهاية الثمانينات تحمس علي سالم البيض أمين عام الحزب الاشتراكي الحاكم في عدن لوحدة فورية قكان اتفاق 30 نوفمبر 1989، وقامت الدولة اليمنية الواحدة بمباركة اميركية وعربية خصوصا مع أفول الاشتراكية في المركز السوفييتي.
قامت الدولة الجديدة في عدن (برفع علم الجمهوية اليمنية) وبدأ الإرباك السعودي حيال "الجار الطبيعي" الذي لاح وكأن قادته (صالح والبيض) يديران ظهرهما للسعودية مقبلين على الرئيس العراقي الذي بارك الوحدة وربما عجّل بقيامها أثناء لقائه بهما خلال اعمال قمة عربية استضافتها بغداد في ابريل 1990.
في اغسطس 1990 (بعد قيام الدولة الجديدة) اجتاح الجيش العراقي الكويت، وبدا من سلوك القيادة اليمنية في صنعاء انها تؤيد التصعيد العراقي الخطير وتعطل إجماعا عربيا ضده، فتعين الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح "عدوا" للمصالح السعودية لا "حارسا" لها.
تعرضت الدولة الجديدة التي خسرت حليفا اقليميا بقدر ما خسرت زخما شعبيا جراء تباطؤ اجراءات الدمج ثم بسبب تصدع الثقة بين الرئيس صالح ونائبه علي سالم البيض، وبدء مسلسل اغتيالات (يعتقد ان اسلاميين متشددين نفذوها لحساب الرئيس صالح ومساعده علي محسن الأحمر) استهدف كوادر الحزب الاشتراكي في صنعاء وعمران وإب وتعز وأبين.
عقب اول انتخابات برلمانية في الدولة الجديدة (ابريل 1993) اندلعت ازمة سياسية حادة بين الرئيس صالح ونائبه البيض الذي عبر صراحة عن رفضه الاستقواء بالأغلبية العددية في البرلمان المنتخب الذي استحوذ صالح وحلفاؤه على نسبة الثلثين من مقاعدة.
غادر البيض صنعاء الى الولايات المتحدة الاميركية للعلاج. وعاد بعد شهرين إلى عدن وكانت تلك العودة رسالة صريحة على ان الحزب الاشتراكي اليمني يرفض الاستمرار في "وحدة" يستقوي فيها شريكه باغلبية برلمانية لتقويض وعود الوحدة وبخاصة دولة المواطنة وسيادة القانون.
في خريف العام نفسه بدأ حوار وطني امتد إلى فبراير 1994. وقد أفضى الحوار الى "وثيقة العهد والاتفاق" التي توسلت معالجة القضايا الشائكة بين الشريكين في قرار الوحدة، واعادة تصميم نظام هذه الدولة سياسيا وإداريا، عبر إعادة توزيع السلطة داخل المركز والمحافظات التي تقرر أن تتوزع داخل وحدات إدارية أكبر (مخاليف) وأن تمنح صلاحيات أوسع بما يضمن لامركزية ادارية تخفف من وطأة العاصمة "القاصمة" وتتيح مجالات للمبادرة الاهلية في المخاليف.
كانت تلك الوثيقة المتوافق عليها (والموقع عليها في العاصمة الأردنية عمان) بمثابة تقويض لدولة الرئيسس صالح السلطانية، وتجريف من أسفل لأعمدة نظامه. لكن البيض اليائس من صالح، لم يعد إلى صنعاء بل إلى عدن عبر الخليج. وقد استغل صالح الأمر رافعا لواء الشرعية الدستورية لحشد حلفائه ضد مخطط انفصالي للاشتراكي، فاندلعت الحرب في مطلع مايو 1994، بغية انجاز 3 أهداف: الأول معلن وهو منع انفصال الجنوب باسم الشرعية الدستورية، والآخر مضمر وهو الانفراد بالسلطة عبر تدمير الوحدات العسكرية الموالية للاشتراكي وإخراجه من السلطة بالقوة، والثالث مرجأ وهو حرق "وثيقة العهد والاتفاق".
في 7 يوليو 1994 اقتحمت قوات الشرعية عدن، وأرسل القائم باعمال رئيس الحكومة في صنعاء إلى مجلس الأمن رسالة تتضمن تعهدات بإعلان عفو عام وإعادة النازحين وتنفيذ "الوثيقة".
***
في تلك الحرب ظهر جليا ان الرياض تدعم مخططا لإعادة اليمن إلى ما قبل 1990. لكن الرغبة السعودية ارتطمت بإرادة دولية تدعم استمرار الوحدة، وبتطورات ميدانية لصالح "الدولة الحاجز" مكنت صالح من الاستحواذ على عدن. فصارت "الجمهورية اليمنية" حقيقة سياسية لا مناص من قبولها خليجيا وعربيا.
***
في العقد التالي تموضعت اليمن مجددا ك"دولة حاجز" ضد الإرهاب، خصوصا بعد احداث 11 سبتمبر 2001 التي جعلت من "الإرهاب" العدو الأول في نظام دولي وحيد القرن بعد أن كانت الشيوعية هي التهديد الأول للعالم الحر (الغرب وحلفائه في العالم العربي) منذ نهاية الاربعينات.
في الأثناء كانت إيران تتغلغل في المشرق العربي والخليج والجزيرة عبر أدوات متنوعة. وفي 2004 شن الرئيس صالح حربا داخلية جديدة ضد جماعة ايديولوجية تتخذ من محافظة صعدة معقلا لها، هي جماعة الحوثيين (نسبة الى زعيمها حسين بدرالدين الحوثي).
كانت صعدة تقع في نطاق المنطقة العسكرية الشمالية الغربية التي يقودها علي محسن الأحمر أبرز مساعدي الرئيس، والشخصية الثانية في الشبكة العسكرية الأمنية الاجتماعية التي تطبق على "اليمن" منذ حرب 1994 وعلى "اليمن الشمالي" من قبل، منذ 1978.
اندلعت الحرب لاعتبارات محلية في الأساس. لكن من الخفة تجاهل الدوافع الاقليمية من وراء شنها.
كان للحوثيين صلات ايديولوجية، وربما أمنية وسياسية، بإيران الطامحة، وكانت السعودية تتأهب لمنازلة العدو الاقليمي الجديد _ بعد زوال نظام صدام حسين في العراق_ في لبنان وسوريا والبحرين والعراق واليمن.
في الواقع كان الرئيس علي عبدالله صالح يستعد مجددا للعب دور الحارس لصالح السعودية. وكانت "الجمهورية اليمنية" تتعين مجددا ك"دولة حاجز" ضد الخطر الشيعي أو ما أطلق عليه "الهلال الشيعي" في منتصف العقد الماضي.
بعد 6 حروب في صعدة (شاركت في الأخيرة منها المملكة العربية السعودية رسميا) بقي الحوثيون شوكة تؤرق السعودية على الحدود الجنوبية الغربية.
وفي فبراير 2011 اندلعت ثورة شعبية عارمة حتمت خروج صالح من الرئاسة وجلوس رئيس جديد على "كرسي حمير" الذي لا يستقر عليه إلا من احتمل لدغات الأفاعي والثعابين حسبما تقول العرافة الحميرية في كتب المؤرخين القدامي في اليمن.
لم يظهر الرئيس الجديد عبدربه منصور هادي خلال العامين الأولين (مدته الرئاسية) أية مهارات استثنائية في ادارة الملفات الساخنة في اليمن. باستثناء الحرب على الإرهاب التي بدا متحمسا لخوضها (وهو على أية حال لم يحقق اختراقات كبيرة في جبهتها) فإن الرئيس الجديد اخفق في الجبهة الشمالية الغربية رغم ان قائدها (علي محسن الأحمر) هو أهم مساعديه.
تنامى نفوذ الحوثيين في الشمال. ونالوا القبول في النادي السياسي بالعاصمة، وصاروا فاعلا سياسيا في العملية السياسية الانتقالية عبر مشاركتهم في مؤتمر الحوار الوطني بتشجيع دولي، غربي اساسا.
في صيف 2014 حاولت الرياض تدارك التأكل في نفوذها في اليمن واستعادة المبادرة ضد الخصم الاقليمي الأشد خطرا من أي عدو سابق (أي إيران). لكن محاولة رومنسية للجمع بين صالح وعلي محسن في إطار تحالف ضد الحوثيين بقيادة الرئيس هادي باءت بالفشل.
في يوليو 2014 سيطر الحوثيون على عمران (شمال صنعاء). وبعد شهرين فقط (سبتمبر) اجتاحوا العاصمة التي صارت، حسب تصريحات سياسيين ايرانيين، رابع عاصمة عربية تحتلها إيران.
***
كانت السعودية تتميز غيظا وهي ترى "دولتها" الحاجز تتحول بين عشية وضحاها إلى مركز متقدم للعدو الإيراني.
كان هذا انقلابا في حسابات الاقليم فوق قدرة اليمن ويتجاوز طاقة السعودية على الصبر.
ومن المرجح أن دوائر القرار في الرياض بدأت منذ سبتمبر تتدارس افكار حول التعامل مع هذا الخطر المتنامي في "الحديقة الخلفية".
***
في يناير 2015 استكمل الحوثيون انقلابهم على الشرعية التوافقية بالإطباق على آخر المربعات الأمنية في العاصمة. ومذّأك بدأت العاصمة السعودية التخطيط ل"العاصفة" التي ستستعيد من خلالها مهابتها الجريحة و"الدولة الحاجز" معا.
***
تسير العملية السعودية في اليمن بوتيرة متأرجحة. والأكيد ان التحالف الذي تقوده الرياض تمكن من تحقيق اختراقات مهمة في الشهر الخامس من الحرب. صار ل"الشرعية" موضعا رئيسا في الداخل بعد استرداد عدن من تحالف الحوثي_ صالح. وهناك تقدما حاسما في أغلب المحافظات الجنوبية والشرقية. وتسير الحرب في تعز وإب لصالح التحالف بينما يرجح أن تلعب جبهة مأرب الدور البارز في حرب احتواء الحوثيين.
***
من غير المحتمل ان تفرز هذه الحرب الاهلية اليمنية_ الاقليمية خارطة جديدة للجزيرة العربية. ومن الواضح _ حتى الآن على الأقل_ ان الرياض لا تريد تسليم راية "الوحدة اليمنية" إلى طرف يمني مجددا. لذلك فإنها تبدو شديدة الحساسية حيال أية دعاوات انفصالية في الجنوب خلاف دول خليجية أخرى تشارك في التحالف.
ما ذهب إليه بعض المعلقين الاميركيين من احتمال وجود مخطط سعودي لإنشاء هلال سني (ضدا على الهلال الشيعي!) في اليمن يطوق الحوثيين (أو الزيدية) من الجنوب والشرق والغرب، يبدو أقرب ما يكون إلى التهويمات الاستشراقية التي تستهوي بعض الباحثين الغربيين الذين، كما تلاميذهم العرب، يميلون إلى تنميط الظواهر الاجتماعية والسياسية، وبالتالي وضع اليمن في خانة "المشرق العربي" الذي يغرق منذ سنوات في حروب يتداخل فيها الوطني بالطائفي بالاقليمي.
إن السعودية لا تملك المجازفة بإنشاء دولة حاجز في الجنوب والوسط، على سبيل المثال، ضد الخطر الشيعي (الافتراضي في الشمال الزيدي). هذا ليس عصر الحرب الباردة بين القطبين السوفييتي والاميركي، لتضمن انصباطا، مكفول دوليا، في حدودها الجنوبية. ثم ان تمزيق اليمن يعني استعار حروب الطوائف في اليمن، وتنامي الاستقطاب الطائفي والجهوي الذي ستستفيد منه الجماعات الاسلامية باعتبار ان حروب الطوائف هي "روح العصر" في العالم العربي. ثم أن دولة حاجز في الوسط والجنوب والشرق (باالانقصال أو بالتفكيك الفدرالي للدولة اليمنية) يعني ان الاقليم المخصص للمحافظات الشمالية الغربية (من ذمار إلى صعدة) والذي يمر من تحت جغرافية العاصمة اليمنية (الاتحادية) يعني أمرين: معزلا طائفيا جهويا لا انسانيا ضد "اليمنيين" في المناطق التي يتنمي اغلب سكانها الى الزيدية (وبالتالي بيئة حاضنة لأية جماعات شيعية متشددة تستثمر الاحباط الناجم عن هزم الحوثيين، او نسخة أكثر راديكالية من الحوثيين)؛ وجمهور واسع من اليمنيين الممزقين "هوياتيا" في بقية اجزاء اليمن (الاقاليم الخمسة الأخرى) تتنازعهم جماعات مصالح وأخرى جهوية وايديولوجية.
تخوض السعودية في اليمن حربا وجودية كما يظهر من جموح الخطاب والسلاح والاعلام.
لكن محصلة أي تفخيخ ل"الهوية الوطنية" قد تكون اخطر بكثير من مبررات خوض هذه الحرب. ذلك أن الشمال الزيدي الذي كان ركيزة الدولة الحاجز في السبعينات والثمانينات يصير وفق مخطط الرئيس الانتقالي هادي وخبراؤه الاستراتيجيون إمارة زيدية في الشمال (أقرب روحيا وسياسيا إلى طهران منها إلى الرياض). مثلما أن الهلال السني سيكون في ظل أفول "هوية وطنية يمنية" مشتلا مثاليا ل"داعش" يمني ينافس السعودية على تمثيل السنة من موقع اشد جذرية ضد "الفرس" و"الرافضة" و"المجوس".
***
السعودية في مأزق.
لكن اليمنيين عند حافة السقوط في وحل التمزق وحروب الطوائف.
هناك دائما فرص تمرق وتفوت وأخرى تلوح من وراء السنة النار واعمدة الدخان.
وهناك دروس وعبر من الماضي.
والدرس الأول سعوديا هو ان اليمن، ممزقا او موحدا، ما عاد "الدولة الحاجز" بأية حال.
والدرس الأول يمنيا وسعوديا ان تهديدا وجوديا لكيان دولة يعني بالضرورة تهديدا موازيا لكيان الدولة الأخرى.
اليمن (الشمالي ثم الجنوبي) والسعودية تعاصرتا في النشأة وتصارعتا في محطات في الماضي قبل أن ينحسم الصراع لصالح "الشقيقة الكبرى" في الجزيرة والخليج. وهذه الحرب الوجودية لأطراف عديدة في اليمن فضلا على السعودية، قد لا تتوقف آثارها التدميرية عند اللحظة الراهنة إن لم تتبلور رؤية جيدة للعلاقة بين اليمنيين والسعوديين تضع حدا لمقاربات الماضي التي جعلت من اليمن معزلا للفقراء ومشتلا للتطرف ومؤئلا للإرهاب. لكن هذا "المعزل" ليس من هذا العالم "الخليجي" بل هو الجزء الأكثر عراقة فيه (العربية السعيدة قديما) وهو المعزل الذي يفيض بموقعه وبخضائصه وبحيوية مجتمعه، بشبابه، على الاقليم مهما علت الجدران على حدوده.
تعرض اليمن عبر التاريخ الحديث لمحن أقسى من هذه التي يعبرها عليها الآن. وعندما تقرع أجراس السلام في القريب، سيرى العالم أن الشعب الذي يقطن هذه المنطقة المعذبة من جنوب الجزيرة العربية قادر على النهوض مجددا إذا كف جيرانه عن التعاطي معه باعتباره منبعا للأخطار والتهديدات، وإذا توقفوا عن مقاربته من زاوية "الدولة الحاجز".
هذا عصر مغاير.
واليمن لن يعود أبدا "دولة حاجز" لصالح أحد.
وعلى السعوديين والخليجيين ان يقرروا هم وجهتهم:
دولة أو دويلات "حاجز على شجرة المقامرات الاقليمية، او معزل يمني وراء الأسوار، او دولة يمنية عصرية تكون جزءا فاعلا في اقليمها وعالمها العربي.
هذا ليس قرار السعوديين حلفائهم وحدهم.
هو أيضا، وأساسا، قرار اليمنيين.

الثلاثاء، 18 أغسطس 2015

اليمن لن يفلت من المصير العراقي إذا واصلت "الشرعية" إطلاق الوعود والالعاب النارية من الرياض وأبو ظبي واستانبول!

      في الحرب الدائرة في اليمن (وعلى اليمن) هناك طرف يزعم أنه "الشرعية" يتقدم الآن على الأرض بفضل الدعم السعودي والخليجي.
     هذا الطرف تؤيده قوى سياسية يمنية وجماعات مسلحة، أيديولوجية وجهوية، و"مقاومات" نشأت في عدن ومأرب والبيضاء وشبوة وتعز وإب والحديدة وأبين.
     هذا الطرف الذي يتحدث باسم شرعية مسنودة محليا وعربيا ودوليا، لا يظهر أن لديه برنامج انقاذ وطني (أو حتى مشروع برنامج) يمكنه من استنهاض الشعب اليمني من أجل الحرية والكرامة والعدالة والإعمار والسلام المستدام.
    حتى مرجعيات المرحلة الانتقالية التي يتشدق بها هادي ومساعدوه، لا يكاد يبين لها أثر في سلوكه وهذيانات مستشاريه ومساعديه.
     حتى قرار 2216 الذي "شرعن" العاصفة السعودية لا يستظهره، جيدا، السياسيون الخارقون الذين يقيمون في ضيافة الرياض واستانبول.
    ليت هذا فحسب!
    فالظاهر من التطورات الميدانية في المحافظات المحررة من سيطرة الحوثيين وحلفائهم، ومن توجهات الحكومة اليمنية التي أشارت إليها وزيرة الاعلام ناديا السقاف قبل يومين بشأن "العاصمة"، ومن الالماحات التي يطلقها معلقون خليجيون في الفضائيات الخليجية، أن "الشرعية" المدعومة من التحالف، ليست، فقط، بدون رؤية وطنية شمولية ل"يمن ما بعد الحرب"، بل إن سلوكها يقطع في أنها بدون 3 ركائز ضرورية للحؤول دون السقوط في الفوضى على المدى القصير:
       _ هذه "الشرعية" بدون برنامج عمل لبناء السلام واستعادة التوافق واستنقاذ الدولة (وهذا الأمر رهن، الآن، بالنوايا الحسنة لاسماعيل ولد الشيخ والدوافع المضمرة لدول الاقليم)؛
      _ وهي بدون اقتدار سياسي (وهذا أمر خبره اليمنيون وسفراء الدول الراعية إذ أن حدا أدنى من الاقتدار في تحمل مسؤولية البلد في مرحلة انتقالية متوافق على مهامها، وطنيا واقليميا ودوليا، كان كفيلا بتجنيب اليمن هذه المحنة؛
      _ وهي بدون أولويات وطنية، فالمسؤولون الذين يواصلون اطلاق "الفرقعات" من عواصم عربية وغير عربية عوض العودة إلى أية "بقعة محررة" من اليمن لا يمكن الرهان عليهم في تحمل مسؤولية هذا البلد الغارق في الدم والسلاح والعصبيات، ولا يمكن الوثوق في مزاعمهم بأن لديهم أولويات لمواجهة التحديات الأمنية والخدمية والاقتصادية التي يمكن التقاطها بالعين المجردة من دون حاجة إلى خبراء استراتيجيين يطلون يوميا من الفضائيات الخليجية لتقديم مواعظ عن "هندسة المجتمعات" و"بناء الكيانات الوطنية".
***
اليمن دخل بفعل "ضحالات" السياسيين وخرافات "الآخرويين"، ايديولوجيين وجغرافيين، المشرحة الاقليمية والدولية في لحظة تصفية الحسابات، الايديولوجية والاقليمية والغربية، مع "الدولة الوطنية" في العالم العربي، وفي ذروة ازدهار حروب الطوائف والجاهليات من "الخليج الثائر إلى المحيط الهادر". وليس من المرجح_ في ظل السبات العميق ل"شرعية" احترفت التبشير وإطلاق الألعاب النارية، أن يخرج هذا "اليمن" من المشرحة كما دخلها، مثلما انه ليس من الفطنة الاعتقاد بان الشعب اليمني سيفلت من "الفوضى" التي عصفت، وتعصف، بشعوب عربية وجدت نفسها، خلال العقدين الاخيرين، بين خيارين أحلاهما مر: طغيان الحكام أو انهيار الأوطان!